تفسير سورة الواقعة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 14 ربيع الثاني 1438هـ | عدد الزيارات: 1674 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الواقعة مكية وآياتها 96

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

قوله (إذا وقعت الواقعة) : إذا قامت القيامة ، والواقعة من أسماء يوم القيامة ؛ وسميت بذلك لتحقق كونها ووجودها .(لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) أي: لا شك فيها، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية، ودلت عليها حكمته تعالى .(خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) أي: خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين .(إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا) أي: حركت واضطربت(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) أي: فتتت(فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) فأصبحت الأرض ليس عليها جبل ولا معلم، قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا(وَكُنْتُمْ) أيها الخلق (أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) أي: انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة .ثم فصل أحوال الأزواج الثلاثة، فقال:فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ تعظيم لشأنهم وتفخيم لأحوالهم (وَأَصْحَابُ الْمَشأَمَةِ)أي:الشمال،(مَاأَصْحَابُ الْمَشأَمَة) تهويل لحالهم(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) أي: السابقون في الدنيا إلى فعل الخيرات كما أمروا فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) .وهؤلاء المذكورون ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ أي: جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة.

وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) أي من هذه الأمة وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن الحصين رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ). الحديث ، والمقربون هم خواص الخلق، (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) : أي مرمولة بالذهب، يعني منسوجة به مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار مُتَقَابِلِينَ وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم .

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)

أي: يدور على أهل الجنة لخدمتهم وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء على صفة واحدة لا يكبرون عنها، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم .ويدورون عليهم بآنية شرابهم (بِأَكْوَابٍ) وهي التي لا عرى لها، (وَأَبَارِيقَ) الأواني التي لها عرى، (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها(لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) أي: لا تصدعهم رءوسهم .ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تذهب بعقولهموالحاصل: أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا، لا يوجد في الجنة فيه آفة .وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنهوَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، روى الإمام أحمد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة ، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة، فقال: أكلتها أنعم منها، قالها ثلاثاً، وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها) ، صححه شعيب الأرناؤط ، وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعين: حسان الأعين وضخامها وحسن العين في الأنثى، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها .(كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن بوجه، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت . فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظروذلك النعيم المعد لهم جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم .لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاما يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاما يؤثم صاحبه .إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا أي: إلا كلاما طيبا، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للنفوس وأسلمه من كل لغو وإثم، نسأل الله من فضله .ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين فقال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) أي: شأنهم عظيم، وحالهم جسيمفِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي:سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك فيه، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله، عن سليم بن عامر، قال: أقبلَ أعرابيٌّ يومًا فقال: يا رسولَ اللهِ! ذكرَ اللهُ في الجنَّةِ شجرةً مؤذيَةً وما كنتُ أرَى أنَّ في الجنَّةِ شجرةً تؤذي صاحبَها ! قال رسولُ اللهِ وما هيَ ؟ قال : السِّدرُ ؛ فإنَّ لهُ شَوكًا مؤذيًا قال رسولُ اللهِ : أليسَ اللهُ يقولُ (فِى سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضَّدَ اللهُ شَوكَهُ ، فجعلَ مكانَ كلِّ شَوكةٍ ثمرةً ؛ فإنَّها لتُنبتُ ثمرًا ، تفتَّقُ الثَّمرةُ منها عن اثنَينِ وسبعينَ لَونًا من طعامٍ ، ما فيها لَونٌ يُشْبِهُ الآخرَ) صححه الألباني (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أي الموز المتراكب بعضه على بعض(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) روى البخاري عن أبي هريرة يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وروى الترمذي عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب) صححه الألباني ،وقوله (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ) : يجري في غير أخدود وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي: وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يشبه الشكلُ الشكلَ، ولكن الطعم غيرُ الطعم ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي: عالية وطيئة ناعمة(إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) أي: إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأة كاملة لا تقبل الفناء (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) أي بعد الثيوبة عدنا أبكارا، وهذا الوصف - وهو البكارة- ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن (عُرُبًا أَتْرَابًا) ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيئتها ودلالها وجمالها ومحبتها، فهي التي إن تكلمت أخذت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ملأت قلب بعلها فرحا وسرورا، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحا طيبا ونورا، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع .والأتراب اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا يحزن ولا يحزن، بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار .كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والذينَ علَى إثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، لا اخْتِلَافَ بيْنَهُمْ ولَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ منهمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ واحِدَةٍ منهما يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِن ورَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ، ولَا يَمْتَخِطُونَ، ولَا يَبْصُقُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، ووَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الألُوَّةُ - قالَ أَبُو اليَمَانِ: يَعْنِي العُودَ -، ورَشْحُهُمُ المِسْكُ.) وروى الترمزي عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يُعطَى المؤمنُ في الجنَّةِ قوَّةَ كذا وَكَذا منَ الجماعِ ، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ أوَ يطيقُ ذلِكَ ؟ قالَ : يعطى قوَّةَ مائةٍ ) صححه الألباني،(لأَصْحَابِ الْيَمِينِ) أي: معدات لهم مهيئات(ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) أي: جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين .

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (48)

المراد بأصحاب الشمال هم أصحاب النارفذكر الله لهم من العقاب، ما هم حقيقون به، فأخبر أنهم (فِي سَمُومٍ) وهو الهواء الحار، (وَحَمِيمٍ) أي: ماء حار يقطع أمعاءهم(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي: ظل الدخان (لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي: ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر، والمقصود أن هناك الهم والغم، والحزن والشر، الذي لا خير فيه، لأن نفي الضد إثبات لضده .ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي: الشركوكانوا ينكرون البعث، فيقولون استبعادا لوقوعه: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ) أي: كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا، فكنا ترابا وعظاما؟ هذا من المحال (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ) قال تعالى جوابا لهم وردا عليهم :قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي: قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم معلوم، قدره الله لعباده، حين تنقضي الخليقة، ويريد الله تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف .(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن طريق الهدى، التابعون لطريق الردى، الْمُكَذِّبُونَ بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد .(لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وهو أقبح الأشجار وأخسها، وأنتنها ريحا، وأبشعها منظرا(فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) والذي أوجب لهم أكلها - مع ما هي عليه من الشناعة- الجوع المفرط، الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع، وهو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع .وأما شرابهم، فهو بئس الشراب، وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي في البطون (فشاربون شرب الهيم)أي: الإبل العطاش، واحدها أهيم، والأنثى هيماء، ويقال هائم وهائمة التي قد اشتد عطشها .هَذَا الطعام والشراب نُزُلُهُمْ أي: ضيافتهم يَوْمَ الدِّينِ وهي الضيافة التي قدموها لأنفسهم، وآثروها على ضيافة الله لأوليائه .ثم ذكر الدليل العقلي على البعث، فقال: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي: نحن الذين أوجدناكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، من غير عجز ولا تعب، أفليس القادر على ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير، ولهذا وبخهم على عدم تصديقهم بالبعث، وهم يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ .

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)

أي: أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون، فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة وآلتها من الذكر والأنثى، وهدى كلا منهما لما هنالك، وحبب بين الزوجين، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب للتناسل .ولهذا أحالهم الله تعالى على الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، فقال: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ)أن القادر على ابتداء خلقكم قادر على إعادتكم

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)

وهذا امتنان منه على عباده، يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والإنابة إليه، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار، فتخرج من ذلك من الأقوات والأرزاق والفواكه، ما هو من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم، التي لا يقدرون أن يحصوها، فضلا عن شكرها، وأداء حقها، فقررهم بمنته، فقال: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي: أأنتم أخرجتموه نباتا من الأرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حبا حصيدا وثمرا نضيجا؟ أم الله الذي انفرد بذلك وحده، وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض وتشقوها وتلقوا فيها البذر، ثم بعد ذلك لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك، ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ومع ذلك، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار لولا حفظ الله وإبقاؤه لكم بلغة ومتاعا إلى حينفقال: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ) أي: الزرع المحروث وما فيه من الثمار (حُطَامًا) أي: فتاتا متحطما، لا نفع فيه ولا رزق، (فَظَلْتُمْ) أي: فصرتم بسبب جعله حطاما، بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات الكثيرة (تَفَكَّهُونَ) أي: تندمون وتحسرون على ما أصابكم، ويزول بذلك فرحكم وسروركم وتفكهكم، فتقولون: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي: إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا .ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم، وبأي سبب دهيتم، فتقولون: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) فاحمدوا الله تعالى حيث زرعه الله لكم، ثم أبقاه وكمله لكم، ولم يرسل عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه وخيره .

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)

لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون، وأنهم لولا أن الله يسره وسهله، لما كان لكم سبيل إليه، وأنه الذي أنزله من المزن، وهو السحاب والمطر، ينزله الله تعالى فيكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض وفي بطنها، ويكون منه الغدران المتدفقة، ومن نعمته أن جعله عذبا فراتا تسيغه النفوس، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا مكروها للنفوس لا ينتفع به (فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) الله تعالى على ما أنعم به عليكم .

أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

وهذه نعمة تدخل في الضروريات التي لا غنى للخلق عنها، فإن الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم، فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في الأشجار، وأن الخلق لا يقدرون أن ينشئوا شجرها، وإنما الله تعالى الذي أنشأها من الشجر الأخضر، فإذا هي نار توقد بقدر حاجة العباد، فإذا فرغوا من حاجتهم، أطفأوها وأخمدوها .

(نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) للعباد بنعمة ربهم، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعلها سوطا يسوق به عباده إلى دار النعيم، (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) أي: المسافرين لأن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره، ولعل السبب في ذلك، لأن الدنيا كلها دار سفر، والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه، فهذه النار، جعلها الله متاعا للمسافرين في هذه الدار، وتذكرة لهم بدار القرار، فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته، أمر بتسبيحه وتحميده فقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي: نزه ربك العظيم، كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات، واحمده بقلبك ولسانك، وجوارحك، لأنه أهل لذلك، وهو المستحق لأن يشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى

فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)

أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي: مساقطها في مغاربها، وما يحدث الله في تلك الأوقات، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده .ثم عظم هذا المقسم به، فقال: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وإنما كان القسم عظيما، لأن في النجوم وجريانها، وسقوطها عند مغاربها، آيات وعبرا لا يمكن حصرها .

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

وأما المقسم عليه، فهو إثبات القرآن، وأنه حق لا ريب فيه، ولا شك يعتريه، وأنه كريم أي: كثير الخير، غزير العلم، فكل خير وعلم، فإنما يستفاد من كتاب الله ويستنبط منه .

(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) أي: مستور عن أعين الخلق، وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ أي: إن هذا القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، معظم عند الله وعند ملائكته في الملأ الأعلى .(لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) أي: من الجنابة والحدث ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، والمراد بالقرآن ها هنا المصحف كما روىالبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسَافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. ورواه البخاري(تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة هو تنزيل رب العالمين، الذي يربي عباده بنعمه الدينية والدنيوية، ومن أجل تربية ربى بها عباده، إنزاله هذا القرآن، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين، ورحم الله به العباد رحمة لا يقدرون لها شكورا .ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ويدعوا إليه ويصدعوا به، ولهذا قال: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي: مكذبون غيرمصدقين .وقوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي: تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة الله، فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها، فهلا شكرتم الله تعالى على إحسانه، إذ أنزله الله إليكم ليزيدكم من فضله، فإن التكذيب والكفر داع لرفع النعم وحلول النقم .وعن زيد بن خالد الجُهَنّي أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا. فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب) أخرجاه في الصحيحين(فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم، وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة، والحال أنا نحن أقرب إليه منكم، بعلمنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرون .(فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي: فهلا إذا كنتم تزعمون، أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومجازين .ترجعون الروح إلى بدنها (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها، فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، وإما أن تعاندوا وتعلم حالكم وسوء مآلكم .

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين، في أول السورة في دار القرار .ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار والموت، فقال: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ) الميت (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات .(فرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) أي: فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما روى الإمام أحمد عن البراء أن ملائكة الرحمة تقول أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح وقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، وإن حصل منهم التقصير في بعض الحقوق التي لا تخل بتوحيدهم وإيمانهم، فيقال لأحدهم: (سَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) أي: سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلمون عليه ويحيونه عند وصوله إليهم ولقائهم له .(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) أي: الذين كذبوا بالحق وضلوا عن الهدى(فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي: ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم التي تحيط بهم، وتصل إلى أفئدتهم، وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ .(إِنَّ هَذَا) الذي ذكره الله تعالى، من جزاء العباد بأعمالهم، خيرها وشرها، وتفاصيل ذلك (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي: الذي لا شك فيه ولا مرية، بل هو الحق الثابت الذي لا بد من وقوعه .ولهذا قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فسبحان ربنا العظيم، وتعالى وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، وعن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) متفق عليه

تم تفسير سورة الواقعة ولله الحمد والمنة.

14 - 4 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر