تفسير سورة المنافقون

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 24 ذو الحجة 1437هـ | عدد الزيارات: 2003 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة المنافقون مدنية وآياتها 11 آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 2 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ 3 وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 4

لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها ، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ليبقى جاههم، وتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على بصيرة، فأخبر أنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك، ولهذا قال تعالى: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله، (واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) في قولهم ودعواهم، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم، (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أي: اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحلفان الآثمة، ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم، فاعتقد أنهم مسلمون، فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون بالإسلام وأهله خبالاً فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس، ولهذا قال (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إنما قدر عليهم النفاق برجوعهم عن الإيمان إلى الكفر واستبدالهم الضلالة بالهدى (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) من روائها ونضارتها، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي: من حسن منطقهم وفصاحة ألسنتهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع وليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم .

فهم جهامات وصور بلا معاني، ولهذا قال (هُمُ الْعَدُوُّ) على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، (فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه، إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء، وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن للمنافقين علاماتٍ يُعرفون بها:تحيتهم لعنة، وطعامهم نُهبَة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون، خُشُبٌ بالليل، صُخُب بالنهار) وقال الشيخ أحمد شاكر: اسناده حسن

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ 5 سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 6

قوله (وَإِذَا قِيلَ) لهؤلاء المنافقين (تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) عما صدر منكم، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع، و(لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) امتناعًا من طلب الدعاء من الرسول، (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) عن الحق بغضًا له (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن اتباعه بغيًا وعنادًا، فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم، وسواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وذلك لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم .

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ 7 يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ 8

وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا بزعمهم الفاسد: (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في نصرة دين الله، وهذا من أعجب العجب، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين، وأذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، التي لا تُروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور ولهذا قال الله رداً على قولهم: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها على من يشاء، (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) فلذلك قالوا تلك المقالة، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، وتحت مشيئتهم، (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) ، وفي الصحيحين عن زيد بن أرقم قال :خَرَجْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ أصَابَ النَّاسَ فيه شِدَّةٌ، فَقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ لأصْحَابِهِ:لا تُنْفِقُوا علَى مَن عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ حتَّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِهِ، وقالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فأتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرْتُهُ، فأرْسَلَ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ ما فَعَلَ، قالوا: كَذَبَ زَيْدٌ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَوَقَعَ في نَفْسِي ممَّا قالوا شِدَّةٌ، حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ تَصْدِيقِي فِي: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} فَدَعَاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لهمْ، فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ، وقَوْلُهُ: {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قالَ: كَانُوا رِجَالًا أجْمَلَ شيءٍ.

والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال تعالى:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار هم الأذلاء (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فلذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارًا بما هم عليه من الباطل، ثم قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 9 وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ 10 وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 11 يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح، والخيرات الكثيرة، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي: يلهه ماله وولده، عن ذكـر الله (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) للسعادة الأبدية، والنعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى .وقوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفارات ونفقة الزوجات، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح، وقال: (مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) ليدل ذلك على أنه تعالى لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم ويشق عليهم بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه .فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك قبل الموت الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ) متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلا الرجعة التي هي محال: (رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي: لأتدارك ما فرطت فيه، (فَأَصَّدَّقَ) من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه، ولهذا قال: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) المحتوم لها (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) من خير وشر، فيجازيكم على ما علمه منكم، من النيات والأعمال .

تم تفسير سورة المنافقون ولله الحمد والمنة.

25 - 12 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر