تفسير سورة الجن

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 23 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 2208 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الجن مكية وآياتها 28

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)

يقول تعالى آمراً رسوله أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وانقادوا له، فلما سمعوه قالوا لقومهم: (إنا سمعنا قرآنًا عجباً) بديعًا في بلاغته وفصاحته وحكمه وأحكامه وأخباره, يدعو إلى الحق والهدى، فصدَّقنا بهذا القرءان وعملنا به, (ولن نشرك بربنا أحدًا) في عبادته .

وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا 3

وأنه تعالَتْ عظمة ربنا وجلاله, ما اتخذ زوجة ولا ولدًا .

وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا 4

قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي (سفيهنا) يعنون إبليس وأن سفيهنا- وهو إبليس- كان يقول على الله تعالى قولا بعيدًا عن الحق والصواب مِن دعوى الصاحبة والولد .

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا 5

أي ما حَسِبْنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه .

وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا 6

وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن, فزاد رجالُ الجنِّ الإنسَ باستعاذتهم بهم خوفًا وإرهابًا ورعبًا وهذه الاستعاذة بغير الله من الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة النصوح منه .

وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا 7

وأن كفار الإنس حسبوا كما حسبتم- يا معشر الجن- أن الله تعالى لن يبعث أحدًا بعد الموت .

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا 8

وأنَّا- معشر الجن- طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها مُلئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها وبالشهب المحرقة التي يُرمى بها مَن يقترب منها .

وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا 9

وأنا كنا قبل ذلك نتخذ من السماء مواضع لنستمع إلى أخبارها فمن يحاول الآن استراق السمع يجد له شهابًا بالمرصاد يُحرقه ويهلكه وفي هاتين الآيتين إبطال مزاعم السحرة والمشعوذين الذين يدَّعون علم الغيب، ويغررون بضعفة العقول بكذبهم وافترائهم .

وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا 10

وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير اضافوه إلى الله عز وجل وقد ورد في صحيح مسلم : {والشر ليس إليك} وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان كما في حديث ابن عباس قال : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِن أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنَ الأنْصَارِ، أنَّهُمْ بيْنَما هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رُمِيَ بنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقالَ لهمْ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولونَ في الجَاهِلِيَّةِ، إذَا رُمِيَ بمِثْلِ هذا؟ قالوا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: فإنَّهَا لا يُرْمَى بهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ، إذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هذِه السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قالَ: الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ العَرْشِ لِحَمَلَةِ العَرْشِ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ فيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قالَ: قالَ فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا، حتَّى يَبْلُغَ الخَبَرُ هذِه السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ به، فَما جَاؤُوا به علَى وَجْهِهِ فَهو حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فيه وَيَزِيدُونَ.

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا 11

وأنا منا الأبرار المتقون، ومنا قوم دون ذلك كفار وفساق كنا فرقًا ومذاهب مختلفة .

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا 12

وأنا أيقنا أن الله قادر علينا وأننا في قبضته وسلطانه فلن نفوته إذا أراد بنا أمرًا أينما كنا ولن نستطيع أن نُفْلِت مِن عقابه هربًا إلى السماء، إن أراد بنا سوءًا .

وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا 13

وإنا لما سمعنا القرآن آمنَّا به وأقررنا أنه حق مِن عند الله، فمن يؤمن بربه، فإنه لا يخشى نقصانًا من حسناته، ولا ظلمًا يلحقه بزيادة في سيئاته .

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا 14 وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا 15

وأنا منا الخاضعون لله بالطاعة, ومنا الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق، فمن أسلم وخضع لله بالطاعة, فأولئك الذين قصدوا طريق الحق والصواب, واجتهدوا في اختياره فهداهم الله إليه, وأما الجائرون عن طريق الإسلام فكانوا وَقودًا لجهنم .

وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا 16 لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا 17

وأنه لو سار الكفار من الإنس والجن على طريقة الإسلام، ولم يحيدوا عنها لأنزلنا عليهم ماءً هنيئة مريئاً، ولوسَّعنا عليهم الرزق في الدنيا؛ لنختبرهم: كيف يشكرون نعم الله عليهم؟ ومن يُعرض عن طاعة ربه واستماع القرآن وتدبره, والعمل به يدخله عذابًا شديدًا شاقًّا .

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا 18

وأن المساجد لعبادة الله وحده, فلا تعبدوا فيها غيره، وأخلصوا له الدعاء والعبادة فيها والخضوع لعظمته والاستكانة لعزته؛ فإن المساجد لم تُبْنَ إلا ليُعبَدَ اللهُ وحده فيها, دون من سواه، وفي هذا وجوب تنزيه المساجد من كل ما يشوب الإخلاص لله, ومتابعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا 19

وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد ربه كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمة بعضها فوق بعض مِن شدة ازدحامهم لسماع القرآن منه، قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما .

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا 20

قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار: إنما أعبد ربي وحده ولا أشرك معه في العبادة أحدًا من الأنداد والأوثان وكل ما يتخذ المشركون من دونه .

قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا 21 قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا 22 إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا 23

قل- أيها الرسول- لهم: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضرًا، ولا أجلب لكم نفعًا، قل: إني لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته ولن أجد من دونه ملجأ أفرُّ إليه مِن عذابه لكن أملك أن أبلغكم عن الله ما أمرني بتبليغه لكم ورسالته التي أرسلني بها إليكم، فليس لي مزية عليكم إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة خلقه إليه وبذلك تقوم الحجة عليكم، ومَن يعص الله ورسوله ويُعرض عن دين الله فإن جزاءه نار جهنم لا يخرج منها أبدًا وهذا المراد به المعصية الكفرية كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة وأما مجرد المعصية فإنه لا يوجب الخلود في النار كما دلت على ذلك آيات القرآن والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة وأئمة هذه الأمة .

حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا 24

حتى إذا أبصر المشركون ما يوعدون به من العذاب، فسيعلمون عند حلوله بهم: مَن أضعف ناصرًا ومعينًا وأقل جندًا ؟

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا 25 عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا 27 لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا 28

يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) أي مدة طويلة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها ولما تبدى له جبريل في صورة رجل كان فيما سأله أن قال: يا محمد، فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. رواه مسلم،

وهو سبحانه عالم بما غاب عن الأبصار فلا يظهر على غيبه أحدًا من خلقه، إلا من اختاره الله لرسالته وارتضاه وهذا يعم الرسول الملكي والبشري، فإنه يُطلعهم على بعض الغيب، ويرسل من أمام الرسول ومن خلفه ملائكة يحفظونه ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق، وأن الله سبحانه أحاط علمه بما عندهم ظاهرًا وباطنًا من الشرائع والأحكام وغيرها ولا يفوته منها شيء وأنه تعالى أحصى كل شيء عددًا، فلم يَخْفَ عليه منه شيء، وفي هذه السورة فوائد عديدة منها .

أولاً: وجود الجن وأنهم مأمورون ومنهيون ومجازون بأعمالهم

ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الإنس والجن

ثالثاً: أن الله صرف نفراً من الجن يستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم

رابعاً: ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن وحسن أدبهم في خطابهم

خامساً: اعتناء الله برسوله وحفظه لما جاء به

سادساً: شدة حرص الجن على استماعهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتراكمهم عليه

سابعاً: هذه السورة اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك لأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا، بل ولا يملك لنفسه شيئا، عُلم أن الخلق كلهم من باب أولى

ثامناً: أن علم الغيب قد انفرد الله به، فلم يعُلم أحد من الخلق إلا من ارتضاه واختصه بعلم شيئ منه

تم تفسير سورة الجن ولله الحمد والمنة.

23 - 8 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر