تفسير سورة المزمل

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 17 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 1711 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة المزمل مكية وآياتها 20

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا (4)

يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل وهو التغطي في الليل وينهض إلى القيام لربه عز وجل فقال (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً) يا أيها المتغطي بثيابه، قم للصلاة في الليل إلا يسيرًا منه قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا حتى تَصِلَ إلى الثلث، أو زد على النصف حتى تصل إلى الثلثين، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) أي: اقرأ القرآن بتُؤَدَة وتمهُّلٍ مبيِّنًا الحروف والوقوف، كذا كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه قالت حفصة أم المؤمنين " ما رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ صَلَّى في سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، حتَّى كانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بعَامٍ، فَكانَ يُصَلِّي في سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، وَكانَ يَقْرَأُ بالسُّورَةِ فيُرَتِّلُهَا حتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِن أَطْوَلَ منها."رواه مسلم .

وفي صحيح البخاري عن أنس أنَّه سُئِلَ : كيفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] يَمُدُّ ببِسْمِ اللَّهِ، ويَمُدُّ بالرَّحْمَنِ، ويَمُدُّ بالرَّحِيمِ. ، وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها) رواه أبو داود وصححه الألباني ، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته وابتدأه بإنزال وحيه وإرسال جبريل إليه ، إذ رأى أمراً لم ير مثله ولا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون فقد روى البخاري عن جابِر بنِ عبدِ اللَّهِ الأنْصارِيّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بَيْنا أنا أمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فإذا المَلَكُ الذي جاءَنِي بحِراءٍ جالِسٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ،

فَرُعِبْتُ منه، فَرَجَعْتُ فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالَى:

{يا أيُّها المُدَّثِّرُ. قُمْ فأنْذِرْ} [المدثر: 2] إلى قَوْلِهِ {والرُّجْزَ فاهْجُرْ} [المدثر: 5]. فَحَمِيَ الوَحْيُ وتَتابَعَ

قوله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) إنا سننزل عليك قرآناً ثقيلاً معنوياً بتكاليفه الشرعية من أوامر ونواهي وثقيل عند نزوله وثقيل في ميزانه يوم القيامة، ففي صحيح البخاري عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني في مثل صلصة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)

وما كان بهذا الوصف حقيق أن يتهيئ له ويرتل ويتفكر فيما يشتمل عليه ويعمل به .

ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل فقال (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) المقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة ولهذا قال (هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً) أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات، ولهذا قال (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) إن لك في النهار تصرفًا وتقلبًا في مصالحك واشتغالا واسعًا بأمور الرسالة .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا 8 رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا 9

قوله (واذكر اسم ربك) شامل لأنواع الذكر كلها (وتبتل إليه تبتيلا) أي: انقطع إليه انقطاعًا تامًا في عبادتك (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) وتوكل عليه هو مالك المشرق والمغرب لا معبود بحق إلا هو فاعتمد عليه وفوِّض أمورك إليه .

قوله تعالى (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) واصبر على ما يقوله المشركون فيك وفي دينك وخالفهم في أفعالهم الباطلة مع الإعراض عنهم وترك الانتقام منهم، إذ أن الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه ثم قال متوعداً لكفار قومه ومهدداً وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا) دعني - أيها الرسول- وهؤلاء المكذبين بآياتي أصحاب النعيم والترف في الدنيا, (ومهِّلهم قليلا) أي رويدا ، ولهذا قال (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) وهي القيود قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة وغير واحد (وَجَحِيمًا) وهي السعير المضطرمة، (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال ابن عباس ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج، (وَعَذَابًا أَلِيمًا) أي موجعاً مفظعاً، (يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ) أي تزلزل من الهول العظيم، (وَكَانَتِ الْجِبَالُ) الراسيات والصم الصلاب (كَثِيبًا مَهِيلا) أي يصير ككثبان الرمل، ثم قال مخاطباً لسائر الناس (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) أي بأعمالكم (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا) إنا أرسلنا إليكم- يا أهل « مكة » - محمدًا رسولا شاهدًا عليكم بما صدر منكم من الكفر والعصيان كما أرسلنا موسى رسولا إلى الطاغية فرعون، فكذَّب فرعون بموسى ولم يؤمن برسالته وعصى أمره فأهلكناه إهلاكًا شديدًا وفي هذا تحذير من معصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خشية أن يصيب العاصي مثل ما أصاب فرعون وقومه، (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) فكيف تَقُون أنفسكم ويحصل لكم الفكاك والنجاة يوم القيامة الذي يشيب فيه الولدان، مِن شدة هوله وكربه، (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا) السماء متصدعة في ذلك اليوم من شدته وهوله، كان وعد الله تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعًا لا محالة .

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا 19

إن هذه الآيات المخوفة التي فيها القوارع والزواجر عظة وعبرة للناس فمن أراد الاتعاظ والانتفاع بها اتخذ الطاعة والتقوى طريقًا توصله إلى رضوان ربه الذي خلقه وربَّاه، وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم ومكنهم منها لا كما يقوله الجبرية، إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم فإنها بخلاف النقل والعقل .

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 20

ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل وثلثيه أو ثلثه، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام وذكر في هذا الموضع أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين ولما كان تحديد الوقت المأمور به مشقة على الناس أخبر أنه سهل عليهم في ذلك فقال (والله يقدر الليل والنهار) أي يعلم مقاديرهما وما يمضي ويبقى منهما (علم أن لن تحصوه) أي لن تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص لكون ذلك يستدعي انتباها وعناء زائدا (فتاب عليكم) أي فخفف عنكم وأمركم بما تيسر عليكم سواء زاد على المقدر أو نقص، (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) اقرءوا في صلاة الليل ما تيسر لكم قراءته من القرآن مما تعرفون ولا يشق عليكم وعبر عن الصلاة بالقراءة ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف فقال (علم أن سيكون منكم مرضى)، علم الله أنه سيوجد في أمة محمد مَن يشق عليهم صلاة نصف الليل أو ثلثيه أو ثلثه فليصل المريض ما يسهل عليه ولا يكون أيضاً مأمورا بالصلاة قائما عند مشقة ذلك بل لو شقت عليه صلاة النافلة فله تركها وله أجر ما كان يعمل صحيحا، وإذا صلى جالساً في النافلة لمشقة القيام فله أجر القائم وإن صلى النافلة جالسا بدون عذر شرعي فله نصف الأجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صَلاةُ الرَّجُلِ قاعِدًا نِصْفُ الصَّلاةِ)،رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو

، (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة ليستغنوا عن الخلق ويتكففوا عنهم فالمسافر حاله تناسب التخفيف ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، وقصر الصلاة الرباعية، (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله، وهذه السورة مكية ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة ولهذا قال (فاقرءوا ما تيسر منه) أي قوموا بما تيسر عليكم منه، وقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) أي: اقيموا صلاتكم الواجبة عليكم بأركانها وحدودها وشروطها وجميع مكملاتها وأدوا الزكاة التي هي برهان الإيمان وبها تحصل المواسات للفقراء والمساكين، وأداء الزكاة المفروضة دليل على أن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة، (وأقرضوا الله قرضا حسنا) وتصدَّقوا في وجوه البر والإحسان مِن أموالكم؛ ابتغاء وجه الله، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره، وقوله (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) وما تفعلوا مِن وجوه البر والخير وعمل الطاعات تلقَوا أجره وثوابه عند الله يوم القيامة خيرًا مما قدَّمتم في الدنيا وأعظم منه ثوابًا روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن مالِهِ؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما مِنَّا أحَدٌ إلَّا مالُهُ أحَبُّ إلَيْهِ، قالَ: فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أخَّرَ" ثم قرأ قوله تعالى :(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي اكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها، فإنه غفور رحيم لمن استغفره.

تم تفسير سورة المزمل ولله الحمد والمنة

17 - 8 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر