الدرس الخامس والثلاثون: الحديث 25 فضل الله وسعة رحمته

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 10 جمادى الأولى 1437هـ | عدد الزيارات: 2772 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ أنَاسَاً مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم يَارَسُولَ الله: ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ بِالأُجورِ، يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ، وَيَصُوْمُوْنَ كَمَا نَصُوْمُ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ بفُضُوْلِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيْحَةٍ صَدَقَة. وَكُلِّ تَكْبِيْرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمَيْدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيْلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِيْ بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيَأْتِيْ أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُوْنُ لَهُ فِيْهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فَيْ حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بغير هذا اللفظ فقد أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب الذكر بعد الصلاة رقم 807

أهمية الحديث

قال ابن حجر الهيتمي في شرحه على الأربعين: وهو حديث عظيم، لاشتماله على قواعد نفيسة من قواعد الدين

شرح الحديث

قوله (أن أناساً) الأناس والناس بمعنى واحد، وهؤلاء الناس هم فقراء المهاجرين

قوله (من أصحاب) جمع صاحب بمعنى الصحابي، وهو كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة وقبل وفاته، مؤمناً به، ومات على الإسلام

قولهم (ذهب أهل الدثور) الدثور: بضم الدال، جمع دثر وفتحها، وهو المال الكثير

قولهم (بِالأُجورِ) أي الثواب عليها، وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالاً يستطيعونها ويقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور بفضل أموالهم الزائدة عن كفايتهم وحاجاتهم

قولهم (يُصَلونَ كَمَا نُصَلي، وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم، وَيَتَصَدَّقونَ بِفُضولِ أَموَالِهم) يعني لا نتصدق لأنه ليس عندنا شيء، فكيف يمكن أن ننافسهم في فعل الخير (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) المطففين: 26، والمنافسة في طلب المزيد والحرص على الأعمال الصالحة أمر مشروع ومرغوب فيه

قال النبي صلى الله عليه وسلم (أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ) الرواية بتشديد الصاد والدال جميعاً ويجوز في اللغة تخفيف الصاد
والجواب: بلى، ثم بين لهم صلى الله عليه وسلم فقال (إِنَ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً) أي إذا قلت: سبحان الله فهي صدقة (وَكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً) إذا قلت الله أكبر فهذه صدقة (وكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً) إذا قلت الحمد لله فهذه صدقة (وكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَة) إذا قلت لا إله إلا الله فهي صدقة ( وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ) إذا أمرت من رأيته مقصراً في شيء من الطاعات فهي صدقة

وقوله صلى الله عليه وسلم (وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ) إذا رأيت شخصاً على منكر ونهيته فهي صدقة

هذه الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها صدقة يستطيعها هؤلاء الفقراء أن يملؤوا الزمن من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها صدقات، فلما قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اقتنعوا رضي الله عنهم

قوله صلى الله عليه وسلم (وفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ) وهو بضم الباء ويطلق على الجماع وعلى الفرج نفسه وكلاهما يصح إرادته ها هنا والمباحات تصير بالنيات طاعات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به الإنسان قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو زوجته أو غير ذلك من المقاصد الصالحة فلما قال صلى الله عليه وسلم (وفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ) أي الرجل يأتي أهله فله بذلك صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ استفهاماً وليس اعتراضاً فبين لهم صلى الله عليه وسلم وجه ذلك فقال (أرأيتم لو وضعها في الحرام) أي لذته (أكان عليه وزر؟) أي ذنب، الجواب: نعم

قال صلى الله عليه وسلم (فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ) فاستغنى بالحلال عن الحرام فكان مأجوراً بهذا، وهذا ما يسمى عند العلماء بقياس العكس، أي إذا ثبت هذا ثبت ضده في ضده

من فؤائد الحديث

أولاً: مسارعة الصحابة رضي الله عنهم وتسابقهم إلى العمل الصالح، لأن هؤلاء الذين جاءوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: ذهب أهل الدثور بالأجور ليفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم باباً يدركون به هذا السبق

ثانياً: المنافسة في طلب المزيد من الخير، والحرص على الأعمال الصالحة أمر مشروع ومرغوب فيه، وعلى المسلم أن يسعى إليه

ثالثاً: أدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم لهفة هؤلاء وشوقهم إلى الدرجات العلى عند ربهم، فداوى نفوسهم بما آتاه الله تعالى من الحكمة، فطيب خاطرهم ولفت أنظارهم إلى أن أبواب الخير واسعة، وأن هناك من الأعمال ما يساوي ثوابه ثواب المتصدق

رابعاً: أن الصحابة رضي الله عنهم يستعملون أموالهم فيما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وهو أنهم يتصدقون

خامساً: أن الاعمال البدنية يشترك فيها الغني والفقير، لقولهم: يُصَلونَ كَمَا نُصَلي، وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم

سادساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح للفقراء أبواباً من الخير، لقوله صلى الله عليه وسلم َ(أوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ) لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليهم

سابعاً: تقرير المخاطب بما لا يمكنه إنكاره، لقوله صلى الله عليه وسلم (أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَدَّقونَ بِهِ) لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليه

ثامناً: أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال كله صدقة، فقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَةً) هذا منه واجب، ومنه غير واجب، فتكبيرات الصلوات واجبة، وتكبيرات أذكار الصلاة بعدها مستحبة، وهكذا يقال في التسبيح والتهليل في داخل الصلاة وخارجها منه الواجب في الركوع مثل (سبحان ربي العظيم) مرة واحدة وفي السجود (سبحان ربي الأعلى) مرة واحدة وما زاد على واحدة فهو مستحب

وقوله صلى الله عليه وسلم (وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ) هذا من الواجب، لكن الأمر بالمعروف تارة يكون واجباً وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره، مثل الأب في البيت وكذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه ولكن هناك من يقوم مقامه مثل الابن بين الإخوة مع وجود الأب أو الموظف مع وجود الرئيس في العمل

والأمر بالمعروف لابد فيه من شرطين
الشرط الأول: أن يكون الآمر عالماً بأن هذا معروف، فإن كان جاهلاً فإنه لا يجوز أن يتكلم، لأنه إذا أمر بما يجهل فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم قال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم

الشرط الثاني: أن يعلم أن هذا المأمور قد ترك المعروف، فإن لم يعلم تَركَه إياه فليستفصل، ودليل ذلك أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له صلى الله عليه وسلم (أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما) أخرجه البخاري ومسلم

والنهي عن المنكر لابد فيه من شروط ثلاثة
الشرط الأول: أن تعلم أن هذا منكر بالدليل الشرعي، لا بالذوق ولا بالعاطفة ولا بالعادة
الشرط الثاني: أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في المنكر مثل رأيت رجلاً في المسجد الحرام يأكل ويشرب في نهار رمضان فلا تتعجل في الانكار عليه قبل سؤاله فربما كان مسافراً

الشرط الثالث: أن لا يزول المنكر إلى ما هو أعظم،عندها يكون الإنكار حرام لأننا حولناه مما هو أخف إلى ما هو أشد، أما إذا كان إنكاره يزيله فلا شك أن الإنكار واجب وكذا إذا كان يخففه لأن تخفيف المنكر أمر واجب فإذا كان إنكاره يقتضي زواله فوجوبه ظاهر لقوله الله تعالى (وتعاونوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) أما إذا كان يتحول إلى ما هو أنكر فالإنكار حرام، لقوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) فنهى عن سب آلهة المشركين مع أنه أمر واجب، حتى لا يسبوا الله

وقوله صلى الله عليه وسلم (وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ) هذه الصدقة قد تكون من الواجب، إذا كان يخاف على نفسه الزنى إن لم يأت أهله وإلا فهو من الصدقة المستحبة، وكذا في إعفاف زوجته من الزنا، والإنسان مأمور أن لا يمنع نفسه ما تشتهي إذا كان ذلك في غير معصية الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنَّ لِنَفسِكَ عَليكَ حَقًّا) أخرجه البخاري ومسلم، ثم إنه إذا أتى أهله فقد أحسن إلى أهله، لأن المرأة عندها من الشهوة ما عند الرجل، فهي تشتهي الرجل كما يشتهيها، فإذا أتاها صار محسناً إليها وصار ذلك صدقة

تاسعاً: أن الصحابة رضي الله عنهم لا يتركون شيئاً مشكلاً إلا سألوا عنه، لقولهم: أَيأتي أَحَدنَا شَهوَتَهُ وَيَكَون لَهُ فيهَا أَجر

عاشراً: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب المثل الذي يقتنع به المخاطب، في قوله: (أَرَأيتُمْ لَو وَضَعَهَا فِي الحَرامِ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ)

الحادي عشر: أن القياس حجة، فقياس الموافقة كثير فتقول يجب هذا قياساً على هذا، ويحرم هذا قياساً على هذا، وكذا قياس العكس صحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس هذا القياس قياس عكس، فإذا كانت الشهوة الحرام وزر فالشهوة الحلال أجر

الثاني عشر: أن الاكتفاء بالحلال عن الحرام يجعل الحلال قربة وصدقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: وَفِي بُضْع أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/5/9 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر