الدرس الخامس عشر: ضوابط قبول العمل

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 17 ذو القعدة 1436هـ | عدد الزيارات: 2542 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ. رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"

أهمية الحديث
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام وكما أن حديث (إنما الأعمال بالنيات) ميزان للأعمال في باطنها ، وكل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب؛ فكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا ميزان للأعمال في ظاهرها ، وكل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله ، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شئ

قال النووي رحمه الله تعالى :" هذا الحديث ينبغي حفظه وإشهاده في إبطال المنكرات".

وقال ابن حجر الهيتمي :" هو قاعدة من قواعد الإسلام و أعمها نفعاً من جهة منطوقه ؛ لأنه مقدمة كلية في كل دليل يستنتج منه حكم شرعي" أ.هـ

فهذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل بدعة ويستدل به على إبطال جميع العقود الممنوعة أوضح هذا المعنى ابن تيمية في تفسير سورة النور، هذا وقد استدل به بعض الأصوليين على أن النهي يقتضي الفساد

راوية الحديث

أم المؤمنين: كُنّيَتْ عائشة رضي الله عنها بأم المؤمنين لأنها إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع أمهات المؤمنين تكنى بهذه الكنية، كما قال الله عزّ وجل: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب 6)

وعائشة لم يولد لها ولد لكن هي تكنّت بهذه الكنية، لأن أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن

ومن الموافقات أن زوجها عليه السلام محمد بن عبد الله وكذا والدها عبد الله بن عثمان المكنى بأبي بكر الصديق رضي الله عنه

فعائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين وبنى بها ولها تسع سنين وروت للأمة علماً كثيراً وفقهاً غزيراً فهي رضي الله عنها من المحدثات ومن الفقيهات

لغة الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"

من: شرطية، و(أحدث) فعل الشرط، وجواب الشرط: (فهو رد) واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة اسمية، وكلما كان جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء، وعلى هذا قول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء (اسمية طلبية وبجامد ** وبما وقد وبلن وبالتنفيس)

قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَحْدَثَ) أي أوجد شيئاً لم يكن
قوله صلى الله عليه وسلم ( فِيْ أَمْرِنَا) أي في ديننا وشريعتنا
قوله صلى الله عليه وسلم (مَا لَيْسَ مِنْهُ) أي مالم يشرعه الله ورسوله
قوله صلى الله عليه وسلم (فَهُوَ رَدٌّ) أي مردود، فـ (رد) مصدر بمعنى مفعول والمصدر يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول ومن إتيانه بمعنى المفعول قول الله تعالى (وإن كن أولات حمل) أي محمول

فقه الحديث وما يرشد إليه:

أولاً: تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن قصد، لأن الإسلام اتباع لا ابتداع : والرسول صلى الله عليه وسلم حفظ الإسلام من غلو المتطرفين وتحريف المبطلين بهذا الحديث الذي يعتبر من جوامع الكلم ، وهو مستمد من آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل ، نصت على أن الفلاح والنجاة في اتباع هدي رسول الله صلى الله علييه وسلم دون زيادة أو تنطع ؛ كقوله تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ "(آل عمران 31)) وقوله "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ " (الأنعام 153) وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبه:" خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"

مثال على المحدثات

لو أحدث شيئاً أصله من الشريعة على صفة لم يأت بها الدين فيكون مردودا، مثل ما أحدث بعض الناس من العبادات والأذكار وما أشبهها فهي مردودة، مثل فعل الصوفية وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة: سببه، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه وإذا لم يوافق الشريعة فلا

أولاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سبباً مثال: لو أن إنسان أحدث عيداً لانتصار المسلمين في بدر، فإنه يرد عليه، لأنه ربطه بسبب غير شرعي

ثانياً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الجنس، فلو أن أحداً ضحى بفرس، لم تقبل منه، لأن الأضاحي في الغنم أو البقر أو الإبل

ثالثاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في القدر: فلو أن إنساناً تعبد لله بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، مثل: رجل غسل عضو أربع مرات في الوضوء لم تقبل منه الرابعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً وقال: مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ. أخرجه أحمد والنسائي باب الاعتداء في الوضوء وابن ماجه باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه
رابعاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الكيفية: فلو عمل شخص عملاً، يتعبد به لله وخالف الشريعة في كيفيته، لم يقبل منه، مثاله: رجل صلى وسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة
خامساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الزمان مثل: من صلى قبل دخول الوقت فصلاته باطلة

سادساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في المكان مثل: الاعتكاف خارج المسجد فعمله باطل

وهذه أمثلة على جملة من الأمور المردودة لأنها مخالفة لأمر الله ورسوله
الأول: من باع أو اشترى بعد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو ممن تجب عليه الجمعة فعقده باطل، لأنه مخالف لأمر الله ورسوله فلو وقع هذا وجب رد البيع، فيرد الثمن إلى المشتري وترد السلعة إلى البائع لأن الله قال: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع

الثاني: لو تزوجت المرأة بلا ولي فالزواج باطل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي

الثالث: رجل صلى في ثوب مغصوب فجمهور العلماء يقولون: تصح صلاته، لأن النهي ليس عن الصلاة، وإنما النهي عن الثوب المغصوب فالصلاة صحيحة مع الإثم ومثله من صلى في ثوب فيه صور ذوات الأرواح أو الثوب أسفل الكعبين فالصلاة صحيحة مع الإثم للمخالفة الشرعية

الرابع: رجل صلى نفلاً بغير سبب في أوقات النهي، فعمله هذا مردود لأنه منهي عنه لكن إذا كان من ذوات الأسباب فلا بأس مثل صلاة الوضوء لفعل بلال الذي يقول: ما توضأت إلا صليت ركعتين أو تحية المسجد فلا بأس
الخامس: صام رجل عيد الفطر، فصومه هذا مردود لأنه منهي عنه
السادس: رجل غش إنساناً بأن خدعه في البيع فالبيع صحيح، إذا رضي المشتري بذلك لأنّ النّهي عن الغش لا عن البيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لاَ تَلَقُّوا الجَلَبَ فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) أخرجه مسلم، ولم يقل فإن الشراء باطل بل صحح الشراء وجعل الخيار لهذا المتلقى منه وهو المغشوش المخدوع

أما غير العبادات فالأًصل فيها الحل سواء من الأعيان أو من الأعمال فالأصل فيها الحل

مثال الأعيان: رجل صاد طيراً ليأكله فأنكر عليه فقال ما الدليل على التحريم فالقول قوله هو لأن الأصل الحل كما قال الله عز وجل: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا "(البقرة 29)

مثال الأعمال غير العبادات الأصل فيها الحل، مثال ذلك: رجل عمل عملاً في بيته، أو سيارته، أو في لباسه أو أي شيء من أمور دنياه فأنكر عليه رجل آخر فقال: أين الدليل على التحريم؟ فالقول قول الفاعل لأن الأصل الحل
والخلاصة: أن ما علمنا أن الشرع شرعه من العبادات فيكون مشروعاً وما علمنا أن الشرع نهى عنه من العبادات فهذا يكون ممنوعاً وما لم نعلم عنه من العبادات فهو ممنوع ومثله في المعاملات ما أذن فيه فهو مباح مثل أكل النبي من الحمر الوحشية. أخرجه مسلم
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه كذات الناب من السباع أخرجه مسلم فهذا ممنوع
الثالث: ما لم نعلم عنه فهذا مباح لأن الأصل في غير العبادات الإباحة

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1436/11/16 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر