الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
فإن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن فضل العلم وحثَّ عليه في كتابه الكريم ، قال تعالى " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " المجادلة 13 ، وقال تعالى " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " الزمر 9 ، وقال تعالى " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت 43 .
والمقصود بالعلم : هو العلم الشرعي الموصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته ، وأنه الإله الحق الذي لا يستحق أحد أن يعبد سواه ، وأنه الرب الخالق الرازق والمتصرف بهذا الكون والمنعم على جميع العالمين ، والموصل أيضاً إلى معرفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه الرسول الخاتم المبلغ عن الله شرعه ووحيه ، والموصل إلى معرفة هذا الدين الذي جاء به محمد عن الله وبلغنا به في كتاب الله وسنة رسوله بما يشمل جميع نواحي حياتنا في الاعتقاد والسياسة والاجتماع وفي القضاء والتشريع والاقتصاد وجميع ما يحتاجه المسلمون في أمور حياتهم ومعادهم .
فهذا العلم هو العلم الحقيقي الذي أثنى الله على حملته ورفع قدرهم وجعلهم من الشهداء على وحدانيته قال تعالى " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " آل عمران 18 ، ووصفهم سبحانه بأنهم أخشى الناس لله سبحانه فقال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور " فاطر 28 ، والمعنى : الخشية الكاملة ، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأن تنفر طائفة منهم للتعلم والتفقه في هذا الدين ، ليكونوا على بصيرة ونور من الله ، وليعلموا أحكامه وشرائعه ويبلغوا أقوامهم ويوجهوهم إلى الصراط المستقيم بسلوك هذا الدين والالتزام به ، قال تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " التوبة 122 .
ومن نعم الله العظيمة على المسلمين في هذه المملكة العربية السعودية ، وفي جميع بلاد المسلمين أن قيَّض لهم من يقوم بهذا الدين كلما خبا نوره وتزاحمت عليه قوى الكفر وخيَّم على المسلمين الجهل ، فيبعث الله من القادة الصالحين والعلماء والأفاضل والحكام المخلصين من يقوم بنصر هذا الدين وإحياء ما أماته الجهلاء من رسومه ، ونشر العلم وتعليمه ، وتحكيم شريعة الله وكبت الباطل وأهله .
ومن فضل الله على هذه الجزيرة أن قام فيها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والإمام محمد بن سعود رحمة الله عليهما ، وتعاهدا على نصرة هذا الدين ، وصدقا في ذلك ، فنصرهما الله ومكَّن لهم في الأرض وقامت بذلك حِلَق العلم بالمساجد ، وانتشر التدريس فيها ، وأخذ العلماء أماكنهم في توعية الناس بدينهم وتعليمهم أحكامه وشرائعه ، واستمرت على ذلك حتى انتشر العلم في أرجاء هذه البلاد والبلدان المجاورة وفتحت المدارس والمعاهد العلمية وانتشرت في عدة قرى ومدن في هذه الجزيرة العربية ، وكذا الكليات وغيرها من وسائل نشر العلم .
ولقد كان للمعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الأثر العظيم في نشر علوم العقيدة والشريعة ، وتربية الأجيال الناشئة على فهم كتاب الله وفقهه ومعرفة علوم اللغة العربية ، لغة القرآن والسنة .
وإن ثمار هذه المعاهد وما حصل بها من الخير العظيم والنفع العميم لتظهر واضحة جلية على ناشئة شباب هذه البلاد وغيرها من البلاد التي فتحت فيها معاهد تابعة لهذه الجامعة ، فنسأل الله أن يوفق القائمين عليها للزيادة من كل خير وأن يعينهم وأن يضاعف من جهودهم في الإكثار منها والحرص عليها .
كما أن من فضل الله أن وفق ولاة الأمر للأمر بفتح بعض هذه المعاهد خارج المملكة العربية السعودية لتقوم بإبلاغ الحق والخير ونشر العقيدة الصحيحة الصافية الخالية من شوائب الشرك والوثنية وتعليم أحكام الشريعة الغراء ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم للإكثار منها في جميع البلدان ، وأن يوفق القائمين عليها لاختيار الأشخاص الأتقياء والدعاة المخلصين لإدارة هذه المعاهد والتعليم فيها ، فهذا هو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه بإحسان ، كما قال الله تعالى " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " يوسف 108 ، وقال صلى الله عليه وسلم " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " رواه مسلم ، وفي الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " .
عبارة " التخلق بأخلاق الله " ، هذا التعبير غير لائق ، ولكن له محمل صحيح وهو الحث على التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وموجبها ، وذلك بالنظر إلى الصفات التي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها ، بخلاف الصفات المختصة بالله كالخلَّاق والرزَّاق والإله ونحو ذلك ، فإن هذا شيء لا يمكن أن يتصف به المخلوق ، ولا يجوز أن يدعيه ، وهكذا ما أشبه هذه الأسماء ، وإنما المقصود : الصفات التي يحب الله من عباده أن يتصفوا بمقتضاها كالعلم والقوة والرحمة والحلم والكرم والجود والعفو ، وأشباه ذلك ، فهو سبحانه عليم يحب العلماء ، قوي يحب المؤمن القوي أكثر من حبه للمؤمن الضعيف ، كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، عفو يحب العفو .. وهكذا ، لكن الذي لله سبحانه من هذه الصفات وغيرها أكمل وأعظم من الذي للمخلوق بالمقاربة بينهما ، لأنه سبحانه ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله ، كما أنه لا مِثل له في ذاته ، وإنما حَسْبُ المخلوق أن يكون له نصيب من معاني هذه الصفات يليق به ويناسبه على الحد الشرعي ، فلو تجاوز الكرم الحد صار مسرفاً ، ولو تجاوز في الرحمة الحد عطل الحدود والتعزيرات الشرعية ، وهكذا لو زاد في العفو على الحد الشرعي وضعه في غير موضعه ، وهذه الأمثلة تدل على سواها ، وقد نص العلامة ابن القيم رحمه الله على هذا المعنى في كتابيه : (عدة الصابرين) و (الوابل الصيب) ، ولعله نصَّ على ذلك في غيرهما كالمدارج وزاد المعاد وغيرهما ، وإليك نصَّ كلامه في العدة والوابل :-
قال في العدة صفحة 310 :( ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر ، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها أو اتصف بضدها ، وهذا شأن أسمائه الحسنى ، أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها ، وأبغضهم إليه من اتصف بضدها ، ولهذا يبغض الكفور والظالم والجاهل والقاسي القلب ، والبخيل والجبان والمهين واللئيم ، وهو سبحانه جميل يحب الجمال ، عليم يحب العلماء ، رحيم يحب الراحمين ، محسن يحب المحسنين ، ستير يحب أهل الستر ، قادر يلوم على العجز ، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف ، عفو يحب العفو ، وتر يحب الوتر ، وكل ما يحبه من آثار أسمائه وصفاته وموجبها ، وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها ) ا . هـ
وقال في الوابل الصيب صفحة 543 من مجموعة الحديث : ( والجود من صفات الرب جل جلاله ، فإنه يعطي ولا يأخذ ، ويُطْعِم ولا يُطْعَم ، وهو أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته ، فإنه كريم يحب الكرماء من عباده ، وعالم يحب العلماء ، وقادر يحب الشجعان ، وجميل يحب الجمال ) . ا . هـ
أسأل الله سبحانه أن يوفقنا جميعاً للفقه في دينه والقيام بحقه إنه سميع قريب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم