الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد؛
فإنَّ من أهم المهمات وأفضلِ القرباتِ التناصحَ والتوجيهَ إلى الخير والتواصيَ بالحق والصبرَ عليه ، والتحذيرَ مما يخالفه ويغضبُ اللهَ عز وجل ، ويباعدُ من رحمته .
إن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوعٌ عظيم ، جديرٌ بالعناية لأن في تحقيقه مصلحةَ الأمة ونجاتِها ، وفي إهماله الخطرُ العظيمُ والفسادُ الكبيرُ ، واختفاء الفضائل ، وظهور الرذائل ، وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام ، وبيَّن سبحانه أن منزلته عظيمة ، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدَّمه على الإيمان ، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام ، كما في قوله تعالى " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " آل عمران 110 ، ولا نعلم السرَّ في هذا التقديم ، إلا عظم شأنِ هذا الواجب ، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة ، ولا سيَّما في هذا العصر ، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة لظهور المعاصي ، وانتشار الشرك والبدع ، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب ، ويقومون به خير قيام ، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم ، لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم ، وفي عصرنا هذا صار الأمر أشدَّ ، والخطرُ أعظمَ ، لانتشار الشرور والفساد ، وكثرةِ دعاة الباطل ، وقلة دعاة الخير في غالب البلاد ، وأمة محمد عليه الصلاة والسلام هي خير الأمم وأفضلها عند الله ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنَّكُمْ تُتِمُّونَ سبعينَ أُمَّةً أنتم خيرُها وأكرمُها على اللهِ " ،(قلت: رواه الترمذي عن معاوية بن حيدة القشيري وحسنه الألباني).
والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر موجودٌ في الأمم السابقة ، بعث الله به الرسلَ ، وأنزل به الكتبَ ، وأصلُ المعروفِ توحيدُ الله ، والإخلاص له ، وأصل المنكر الشرك بالله ، وعبادة غيره ، وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله ، الذي هو أعظم المعروف ، وينهون الناس عن الشرك بالله ، الذي هو أعظم المنكر .
ولما فرَّط بنو إسرائيلَ في ذلك وأضاعوه قال الله جل وعلا في حقهم " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " المائدة 78 ، ثم فسر هذا العصيان فقال سبحانه " كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " المائدة 79 ، فجعل هذا من أكبر عصيانهم واعتدائهم ، وجعله التفسير لهذه الآية " ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ " المائدة 78-79 ، وما ذلك إلا لعظم الخطر في ترك هذا الواجب ، وأثنى الله جل وعلا على أمةٍ منهم في ذلك فقال سبحانه في سورة آل عمران " مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ " آل عمران 113-115 ، هذه طائفة من أهل الكتاب لم يُصبْها ما أصاب الذين ضيعوه ، فأثنى الله عليهم سبحانه وتعالى في ذلك ، وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل في سورة التوبة قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وما ذلك إلا لعظم شأنه .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، ومع ذلك قدَّمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال سبحانه " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " التوبة 71 ، فقدَّم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة ، مع أن الصلاة عمود الإسلام ، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين ، فلأي معنى قُدِّم هذا الواجب ؟ لا شك أنه قُدِّم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به ، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة ، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل ، ويتعاون أفرادها على الخير ، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله ، ويأتون كل خير ويذرون كل شر ، وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة ، والشرور الكثيرة ، وتفترق الأمة ، وتقسو القلوب أو تموت ، وتظهر الرذائل وتنتشر ، وتختفي الفضائل ويهضم الحق ، ويظهر صوت الباطل ، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر .
وبيَّن سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والمقيمين للصلاة ، والمؤتين للزكاة ، والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة ، فقال سبحانه وتعالى " أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ " التوبة 71 ، فدَّل ذلك على أن الرحمة إنما تنال بطاعة الله واتباع شريعته ، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا تنال الرحمة بالأماني ولا بالأنساب ككونه من قريش أو من بني هاشم أو من بني فلان ، ولا بالوظائف ككونه ملكاً أو رئيس جمهورية أو وزيراً أو غير ذلك من الوظائف ، ولا تنال أيضًا بالأموال والتجارات ، ولا بوجود كثرة المصانع ، ولا بغير هذا من شئون الناس ، وإنما تنال الرحمة بطاعة الله ورسوله ، واتباع شريعته ، ومن أعظم ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في كل شيء فهؤلاء هم أهل الرحمة ، وهم الذين في الحقيقة يرجون رحمة الله ، وهم الذين في الحقيقة يخافون الله ويعظمونه ، فما أظلم من أضاع أمره وارتكب نهيه ، وإن زعم أنه يخافه ويرجوه ، وإنما الذي يعظم الله حقاً ، ويخافه ويرجوه حقاً ، من أقام أمره واتبع شريعته ، وجاهد في سبيله ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، قال سبحانه في سورة البقرة " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ " البقرة 218 ، فجعلهم سبحانه راجين رحمة الله ، لما آمنوا وجاهدوا وهاجروا لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ، ما قال إن الذين بنو القصور ، أو الذين عظمت تجاراتهم ، أو تنوعت أعمالهم ، أو الذين ارتفعت أنسابهم هم الذين يرجون رحمة الله ، بل قال سبحانه " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " ، وفي آية أخرى حصر سبحانه الفلاح في الدعاة إلى الخير ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، فقال عز وجل " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " آل عمران 104 ، فأبان سبحانه أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم المفلحون ، والمعنى أنهم هم المفلحون على الكمال والتمام ، وإن كان غيرُهم من المؤمنين مفلحاً إذا تخلى عن بعض هذه الصفات لعذر شرعي ، لكن المفلحون على الكمال والتمام هم هؤلاء الذين دعوا إلى الخير ، وأمروا بالمعروف وبادروا إليه ، ونهوا عن المنكر وابتعدوا عنه
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى ، كرياء وسمعة ، أو حظ عاجل أو أسباب أخرى ، أو يتخلفون عن فعل المعروف ، ويرتكبون المنكر ، فهؤلاء من أخبث الناس ، ومن أسوئهم عاقبة ، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ. " رواه مسلم " ، فهذه حال من خالف قوله فعله - نعوذ بالله - تسعر به النار ويفضح على رؤوس الأشهاد ، يتفرج عليه أهل النار ، ويتعجبون كيف يلقى في النار هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى ، وتندلق أقتاب بطنه ، يسحبها ، لماذا ؟ لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، وينهى عن المنكر ويأتيه ، فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله ، والنهي عن المنكر مع تركه ، وهذا هو الواجب على كل مسلم
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا الأمر ، وتبين ذلك أعظم بيان وتشرحه ، فيقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح " مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ." رواه مسلم ، فبيَّن صلى الله عليه وسلم مراتب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الثلاث :-
المرتبة الأولى : الإنكار باليد مع القدرة ، وذلك بإراقة أواني الخمر ، وكسر آلات اللهو ، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك كالسلطان ونحوه من أهل القدرة ، وكإلزام الناس بالصلاة ، وبحكم الله الواجب اتباعه ممن يقدر على ذلك ، إلى غير هذا مما أوجب الله ، وهكذا المؤمن مع أهله وولده ، يلزمهم بأمر الله ويمنعهم مما حرم الله باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام ، وهكذا من له ولاية من أمر أو محتسب ، أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر ، أو من جهة جماعته ، حيث ولوه عليهم ، عند فقد الولاية العامة يقوم بهذا الواجب حسب طاقته ، فإن عجز انتقل إلى:-
المرتبة الثانية : وهي اللسان ، يأمرهم باللسان وينهاهم كأن يقول : يا قوم اتقوا الله ، يا إخواني اتقوا الله ، صلوا وأدوا الزكاة ، اتركوا هذا المنكر ، افعلوا كذا ، دعوا ما حرم الله ، بروا والديكم ، صلوا أرحامكم ، إلى غير هذا ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان ، ويعظهم ويذكرهم ، ويتحرى الأشياء التي يفعلونها ، حتى ينبههم عليها ، ويعاملهم بالأسلوب الحسن ، مع الرفق ، يقول عليه الصلاة والسلام " إنَّ اللهَ يحبُّ الرفقَ في الأمرِ كلِّهِ " (قلت: صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) ، ويقول صلى الله عليه وسلم " إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ. " (قلت: رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) ، وعنها رضي الله عنها ، " أنَّ اليَهُودَ أتَوُا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: وعلَيْكُم فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ علَيْكُم، ولَعَنَكُمُ اللَّهُ وغَضِبَ علَيْكُم، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَهْلًا يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ، أوِ الفُحْشَ قَالَتْ: أوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟ قَالَ: أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قُلتُ، رَدَدْتُ عليهم، فيُسْتَجَابُ لي فيهم، ولَا يُسْتَجَابُ لهمْ فِيَّ "،(قلت: رواه البخاري) ، هذا وهم يهود رفق بهم صلى الله عليه وسلم ، لعلهم يهتدون ، ولعلهم ينقادون للحق ، ولعلهم يستجيبون لداعي الإيمان ، فهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق يتحرى الرفق والعبارات المناسبة ، والألفاظ الطيبة عندما يمر على من قصر في ذلك ، في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يدعوهم بالرفق والكلام الطيب ، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم ، أو كابروا فيه يجادلهم بالتي هي أحسن ، كما قال سبحانه " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " النحل 125 ، وقال سبحانه "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"العنكبوت 46 ، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وهم كفار ، ومع ذلك يقول الله عنهم " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " العنكبوت 46 ، والمعنى أن من ظلم منهم وتعدى وأساء الكلام فإنه ينتقل معه إلى علاج آخر غير الجدال بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا " الشورى 40 ، وقال سبحانه " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " البقرة 194 ، لكن ما دام المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق ، فإنه يكون بالتي هي أحسن لأن هذا أقرب إلى الخير ، قال سفيان الثوري رحمه الله : " ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقاً فيما يأمر به ، رفيقاً فيما ينهى عنه ، عدلاً فيما يأمر به ، عدلاً فيما ينهي عنه ، عالماً بما يأمر به ، عالماً بما ينهى عنه " ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما مِن نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ في أُمَّةٍ قَبْلِي إلَّا كانَ له مِن أُمَّتِهِ حَوارِيُّونَ، وأَصْحابٌ يَأْخُذُونَ بسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأَمْرِهِ، ثُمَّ إنَّها تَخْلُفُ مِن بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يقولونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ ما لا يُؤْمَرُونَ، فمَن جاهَدَهُمْ بيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بلِسانِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وليسَ وراءَ ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. " ، وهذا الحديث مثل حديث أبي سعيد السابق المتضمن الإنكار باليد ، ثم اللسان ثم القلب .
فإذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهى إلى القلب ، يكره المنكر بقلبه ، ويبغضه ولا يكون جليسا لأهله ، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له بعض الناس : هلكتُ إن لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فقال له رضي الله عنه : هلكتَ إن لم يعرف قلبُك المعروفَ وينكر المنكرَ " ، فلابد أن تعرف المعروف بالتعلم والتفقه في الدين ، ولا بد أن تعرف المنكر بذلك ، ثم تقوم بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالتبصر والتفقه في الدين من علامات السعادة ودلائل أن الله أراد بالعبد خيًرا ، كما في الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ. " .
وبالله التوفيق