الدرس 87 القضاء والقدر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الجمعة 6 شعبان 1442هـ | عدد الزيارات: 481 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

فقد دلَّ الكتابُ العزيزُ والسنةُ الصحيحةُ وإجماعُ سلفِ الأمةِ على وجوب الإيمان بالقدر خيرِه وشرِه وأنه من أصول الإيمان الستة التي لا يتمُّ إسلامُ العبد ولا إيمانُه إلا بها كما دلَّ على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديثُ صحيحةٌ مستفيضة بل متواترةٌ عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ومن ذلك قولُه عزَّ وجلَّ " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " الحج 70 ، وقوله تعالى " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " الحديد 22 ، وقال تعالى " إنا كلَّ شيء خلقناه بقدر " القمر 49 ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا سأله جبرائيلُ عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام :" أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله ، قال : صدقت " (قلت: ورد الحديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة بلفظ"كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، وبِلِقَائِهِ، ورُسُلِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ.")، وخرَّج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بقوله:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فقال له جبرائيل :" صدقت " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:-

الأمر الأول : الإيمان بأن الله سبحانه علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك كما قال سبحانه وتعالى " إن الله بكل شيء عليم " المجادلة 7 ، وقال تعالى " لِتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً " الطلاق 12 ، وقال تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
الأمر الثاني من مراتب الإيمان بالقدر : كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وآجال وأرزاق وغير ذلك كما قال سبحانه " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " الحج 70 ، وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى : " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " الليل 5 ، 6 ، الآيتين (قلت: ورد الحديث في صحيح البخاري بلفظ" ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفلا نَتَّكِلُ علَى كِتَابِنَا، ونَدَعُ العَمَلَ؟ قالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أعْطَى واتَّقَى وصَدَّقَ بالحُسْنَى} الآيَةَ" وفي مسلم بلفظ"ما مِنكُم مِن نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفلا نَتَّكِلُ؟ قالَ: لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بالحُسْنَى}، إلى قَوْلِهِ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].") وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.

الأمر الثالث من مراتب الإيمان بالقدر : أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته ، كما قال تعالى " لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " التكوير 28 ، 29 ، وقال تعالى " فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة " المدثر 55 ، 56 ، وقال تعالى " ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون " الأنعام 112 ، وقال عز وجل " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " الأنعام 125 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً معلومة من كتاب الله ، والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة وهي إرادة كونية قدرية بخلاف الإرادة في قوله تعالى " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً *يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً " النساء 26 - 28 ، فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية بمعنى المحبة .

والفرق بين الإرادتين ، الأولى : لا يتخلف مرادها أبداً بل ما أراده الله كوناً فلابد من وقوعه كما قال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " يس 82 .

أما الإرادة الشرعية فقد يوجد مرادها من بعض الناس وقد يتخلف ، وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة ولم يتبصر في الحق ، لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل وبين السبيل وشرع أسباب التوبة وبيَّنها ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعاً لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين ولا ممن يوفق للتوبة .
وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين ومما يزيد المقام بياناً أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية وفعل ما أراده الله منه شرعاً وأحبه منه وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية وقد تخلَّفت عنه الإرادة الشرعية لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة .
الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر : أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المُوجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال فالجميع خلق الله سبحانه وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله ، وأفعالهم تنسب إليهم فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها والعبد فاعل حقيقة وله مشيئة وله قدرة قد أعطاه الله إياها والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله وقدرته ومشيئته كما قال تعالى " إن الله على كل شيء قدير " البقرة 109 ، وقال تعالى " لمن شاء منكم أن يستقيم " التكوير 28 ، فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله ولا عن مشيئته فعلم الله شامل ومشيئته نافذة وقدرته كاملة لا يعجزه سبحانه شيء ولا يفوته أحدٌ كما قال عز وجل " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً " الطلاق 12 ، والعرش وما دونه من سماوات وأرضين وملائكة وبحار وأنهار وحيوان وغير ذلك من الموجودات كلها وُجدت بمشيئة الله وقدرته لا خالق غيره ولا رب سواه ولا شريك له في ذلك كله كما أنه لا شريك له في عبادته ولا في أسمائه وصفاته كما قال تعالى " الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل " الزمر 62 ، وقال تعالى " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " البقرة 163 ، وقال سبحانه " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد " سورة الإخلاص ، وقال سبحانه " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " الشورى 11 .

فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق وصفاته كذاته ليست مخلوقة وكلامه من صفاته والقرآن الكريم من كلامه المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة ، وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره .

وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد وأوضحوها بأدلتها وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (العقيدة الواسطية) ، وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة الكبير أبو عبدالله ابن القيم في كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) ، وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل ننصح بقراءته والاستفادة منه.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً للفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم إنه جواد كريم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

6 - 8 - 1442هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 139 الجزء الرابع  الحاجة للقضاء الشرعي - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 138 الجزء الرابع  أخلاق المؤمنين والمؤمنات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 137 الجزء الرابع هذا هو طريق الرسل وأتباعهم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 136 الجزء الرابع توضيح معنى الشرك بالله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 135 الجزء الرابع  بيان معنى كلمة لا إله إلا الله (3) - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 134 الجزء الرابع  بيان معنى كلمة لا إله إلا الله (2) - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر