السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال الله تعالى:{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} [يونس : 98 ] وقال تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } [الأنبياء : 87 ، 88] ، وقال تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين } [الصافات : 139 - 148] .
وقال تعالى:{ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } [القلم : 48 - 50] .
قال أهل التفسير : بعث الله يونس ، عليه السلام ، إلى أهل نينوى ; من أرض الموصل بالعراق.
وللفائدة: نينوى تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة شرق جنوب مدينة الموصل.
فدعاهم إلى الله عز وجل ، فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم ، فلما طال ذلك عليه من أمرهم ، خرج من بين أظهرهم ، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث قال ابن مسعود ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف : فلما خرج من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة ، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم ، فلبسوا المسوح ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله عز وجل ، وصرخوا وتضرعوا إليه ، وتمسكنوا لديه ، وبكى الرجال والنساء ، والبنون والبنات ، والأمهات ، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحملانها ، وكانت ساعة عظيمة هائلة ، فكشف الله العظيم ، بحوله وقوته ، ورأفته ورحمته ، عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم بسببه ، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم ; ولهذا قال تعالى:{ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها }أي ; هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها فدل على أنه لم يقع ذلك ، بل كما قال تعالى:{ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون } [سبأ : 34] وقوله :{ إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين }أي ; آمنوا بكمالهم
هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة ، فينقذهم من العذاب الأخروي ، كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟
الأظهر من السياق : نعم كما قال تعالى : لما آمنوا وقال تعالى :{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي والله أعلم
وقد كانوا مائة ألف لا محالة واختلفوا في الزيادة ; فعن مكحول : عشرة آلاف وعن ابن عباس : كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا وعنه ، وبضعة وثلاثين ألفا وعنه ، وبضعة وأربعين ألفا وقال سعيد بن جبير كانوا مائة ألف وسبعين ألفا.
والمقصود أنه، عليه السلام ، لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر ، فلجت بهم واضطربت ، وماجت بهم وثقلت بما فيها ، وكادوا يغرقون ، على ما ذكره المفسرون ، قالوا : فتشاوروا فيما بينهم على أن يقترعوا ، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ; ليتخففوا منه ، فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس ، فلم يسمحوا به ، فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضا ، فشمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه ، فأبوا عليه ذلك ، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا ; لما يريده الله به من الأمر العظيم ، قال الله تعالى :{ وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم }، وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ، ألقي في البحر ، وبعث الله ، عز وجل ، حوتا عظيما من البحر الأخضر (الخليج العربي) ، فالتقمه ، وأمره الله تعالى: أن لا تأكل له لحما ، ولا تهشم له عظما ، فليس لك برزق ، فأخذه فطاف به البحار كلها قالوا : ولما استقر في جوف الحوت ، حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت ، فإذا هو حي ، فخر لله ساجدا ، وقال : يا رب، اتخذت لك مسجدا لم يعبدك أحد في مثله.
ومقدار لبثه في بطنه قال سعيد بن أبي الحسن، وأبو مالك: مكث في جوفه أربعين يوما والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه.
والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ، ويقتحم به لجج الموج الأجاجي ، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن ، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ، ورب السماوات السبع ، والأرضين السبع ، وما بينها ، وما تحت الثرى ، فعند ذلك وهنالك قال ما قال بلسان الحال والمقال ، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال ، الذي يعلم السر والنجوى ، ويكشف الضر والبلوى ، سامع الأصوات وإن ضعفت ، وعالم الخفيات وإن دقت ، ومجيب الدعوات وإن عظمت ، حيث قال في كتابه المبين ، المنزل على رسوله الأمين ، وهو أصدق القائلين ، ورب العالمين ، وإله المرسلين : {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين }
{فظن أن لن نقدر عليه} أي: نُضَيِّق عليه.
{فنادى في الظلمات} قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب، والحسن ، وقتادة ، والضحاك : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل ومعناه : {فلولا أنه كان}، من قبل أخذ الحوت له {من المسبحين} أي: المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرا، قاله الضحاك ابن قيس، وابن عباس، وأبو العالية، ووهب بن منبه، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء بن السائب ، والحسن البصري ، وقتادة ، وغير واحد واختاره ابن جرير ويشهد لهذا ما روي عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي : " ياغُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ " صحيح الترمذي للألباني.
قال الله تعالى :{ فنبذناه } أي: ألقيناه ، {بالعراء} وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار ، بل هو عار منها {وهو سقيم} أي: ضعيف البدن قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ ، ليس عليه ريش وقال ابن عباس ، والسدي ، وابن زيد : كهيئة الصبي حين يولد ، وهو المنفوس ، ليس عليه شيء {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وهلال ابن يساف ، وعبد الله بن طاوس ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وغير واحد : هو القرع.
قال بعض العلماء : في إنبات القرع عليه حكم جمة، منها: أن ورقه في غاية النعومة ، وكثير وظليل ، ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره ، نيئا ومطبوخا ، وبقشره وببزره أيضا ، وفيه نفع كثير، وتقوية للدماغ ، وغير ذلك.
وروى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :"دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له" صحيح الترمذي للألباني.
وروى البخاري عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :" ما ينبغي لعبد أن يقول : إني خير من يونس بن متى " ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى نبينا محمد، وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين.
وبالله التوفيق
1436/12/25 هـ