تأملات في سورة الحشر

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 28 محرم 1438هـ | عدد الزيارات: 1680 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين

أما بعد

حديثنا إليكم تأملات في سورة الحشر

بدأت سورة الحشر بتسبيح الله وتحميده:(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 1، وخُتمت بتسبيح الله وتحميده: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 24 ، نزه الله عن كل ما لا يليق به كل ما في السموات وما في الأرض، فهو منزه عن الضد والند والصاحبة والولد، ويستحيل أن يشبه بشرًا، أو يشبهه بشر، ولا يوصف بأنه والد ولا وُلد

وتسبيح الله بالنسبة إلى أفعاله -وهو مدخل السورة- أساسه أن الجنس اليهودي الذي تمتع بالشهوات، وتبجح في الأرض، واستباح الربا والزنا، وعاش وفق هواه واستدبر هدايات الله؛ أُمهل ولم يُهمَل، والعقوبة الإلهية أخذت تنزل به، فتسبيح الله هنا إشعار بأنه ما يترك أفعال الخلق تسير فوضى، إن الزمام بيده وهو الغالب على أمره، هذا التسبيح لله رب العالمين هو شعور من الإنسان بأن أحوال الخلق وأن مصائر العباد إلى الله، لابد أن يبت فيها ولابد أن يرسل حكمه العدل في قضاياها إن عاجلاً وإن آجلاً، وقد سكت على اليهود دهرًا ولكنه الآن يضربهم الضربة القاصمة: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) 1 ، 2 . هذا الوصف يعطي أن اليهود كانوا مركز القوة، وأن حصونهم كانت تخيف المؤمنين وتدع في قلوبهم يأسًا من أن اقتحامها سهل، كانوا يعتقدون أن حصونهم مانعتهم من الله، وكان المسلمون يتهيبون هذه الحصون التي أقيمت، لكن الذي حدث كان مفاجأة؛ فإن الحصون خربت، والدور التي أقيمت خلفها هدمت، وكان المؤمنون واليهود جميعًا يشتغلون بتخريب هذه الحصون .

ننظر إلى السورة فنجد أربعة أوصاف نُسبت إلى اليهود

الوصف الأول: أنهم شاقوا الله ورسوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) 4 ، ومعنى مشاقتهم لله ورسوله أنهم عصوا ربهم واستباحوا حرماته وعطلوا أحكامه وشرائعه وأضاعوا حدوده وحقوقه، واليهود سادة هذه الخصال وأسباب انتشارها في العالمين .

الوصف الثاني: أنهم فاسقون: " مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ " 5 .

الوصف الثالث: أنهم يخشون الناس أكثر مما يخشون الله: " لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ " 13 .

الوصف الرابع: أن مظهرهم يدل على الوحدة والجماعة، ولكن سرائرهم متفرقة ممزقة، يكره بعضهم بعضًا، وليست لأنهم لا عقيدة جامعة لهم ولا وحدة عاطفية تربط بينهم: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) 14 ، هذه هي المواضع الأربعة في السورة التي تحدثت عن أخلاق اليهود عندما هزموا .

فمَنْ جَمَع خصال الشر جديرًا بأن يجنى الشر، ومن استجمع خصال الخير كان جديرًا بأن يجنى الخير

إن السورة التي شرحت لنا لماذا هزم اليهود ولماذا قذف في قلوبهم الرعب قالت لنا: كان لابد أن يعاقب اليهود: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) 3 ، ولذلك فإن هذه السورة التي قالت للمسلمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) 18 ، 19 ، هاتان الآيتان -في سياق سورة الحشر- تنبئان المسلمين بأنه لا يجوز أن يقعوا فيما وقع اليهود فيه، واليهود نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولم يتقوا الله ولم يحسبوا حساب الغد .

والواقع أن اليهود فيما يتصل بيوم القيامة حذفوا ما يتصل به من نصوص، إذ لا يوجد في العهد القديم نص تحدث عن يوم القيامة .

ينبه القرآن المسلمين إلى أن لا يسلكوا مسالك اليهود، ويبين لهم أن مصير الناسين النار، وأن مصير الذاكرين الجنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) 18 - 20 ، ويبين الله بعد ذلك أنه أنزل القرآن الكريم عقيدة وشريعة، وأن الأمة التي تجعله رايتها لابد أن تسمو وتزكو وتنتفع وترتفع، وأن هذا القرآن حوى من المواعظ ما يزلزل الطغيان ويمنع الكفران ويجعل صلة الإنسان بربه -جل جلاله- صلة قائمة على الخوف والوجل: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) 21 ، بعد هذا العرض السريع بدأ ختام السورة بذكر الله مرة أخرى وتسبيحه وتحميده: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 22 - 24 ، إلى هذا القدر من الشرح- تبيّن منها أن الله تحدث عن نفسه في أولها وآخرها، وأنه أذل أهل الكتاب من اليهود لمسالكهم الشائنة ومواقفهم الرديئة، وبقي بعد ذلك أن نعرف الوقائع التي تضمنتها السورة .

أولاً: حاول اليهود قتل رسول الله وانتهزوا لذلك فرصه أنه ذهب إليهم ليطلب منهم المعاونة في دية قتيلين كما تقضي المعاهدة المبرمة بين المسلمين واليهود، ولقد أجاب اليهود إجابة حسنة، وأظهروا كأنهم يستعدون لجمع الدية وتسليمها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، واستند النبي إلى جدار ينتظر الوفاء، ولكنه -وهو المحفوظ برعاية الله- أعلمه الله أنهم يتآمرون عليه، وفعلاً فقد قال بعض اليهود للبعض الآخر: لن تجدوا الرجل مستغفلاً كحالته هذه، فليذهب أحدكم بصخرة وليلقها عليه من السطح وهو مستند إلى الجدار ليريحنا منه، وأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمؤامرة، فترك المكان على عجل، ولحق به أصحابه " كما ذكر ابن إسحاق في السيرة .

وفرض عليهم الحصار بعد هذه الخيانة .

ثانياً: المجتمع في المدينة كان مجتمعًا خليطًا، كان فيه مؤمنون، صدقوا الله وكانوا أتباعًا ناصحين لله ولرسوله، وهم المهاجرون والأنصار .

وكان فيه منافقون يعيشون في المدينة، قلوبهم مع قريش واليهود ضد الإسلام، وفي الوقت نفسه يتظاهرون بأنهم على إيمان، هؤلاء قالوا لليهود: اثبتوا في مواقعكم، إن الحصار الذي سيضرب عليكم لن يدوم طويلاً، وسنشترك معكم في القتال حتى يفض هذا الحصار، ولكن المسلمين حاصروا اليهود وشددوا عليهم الخناق، وبدا من قوتهم وإيمانهم واعتمادهم على الله أنه لن يستطع أحد أن يفك قبضتهم عن عدو الله وعدوهم، وبعد أن كان المنافقون يلوحون بتدخلهم ويشعرون اليهود بأنهم معهم تخاذلوا؛ قال تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) 11 ، 12 ، لو أن قوى الدنيا كلها تجمعت لمساندة اليهود فإن هذه القوى ستتمزق وتتلاشى، ولابد من أن ينزل بطش الله باليهود على يدي محمد وصحبه .

ثالثاً: تمت المعركة، وكان الرعب الذي بثه الله في قلوب اليهود سلاحًا إسلاميًّا ضدهم، وانتصر المسلمون وأخذوا أموال اليهود، ولذلك يقول الله - جل شأنه : " مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " 7 .

رابعاً: تعطي هذه السورة الجليلة أن الله تبارك وتعالى نصر عقيدة حرة عادلة منصفة لها أتباع كرام مؤثرون مخلصون شجعان مؤمنون على قوم يتصفون بالفسق ومشاقتهم لله ورسوله، ويتصفون بأنهم في مظهرهم كيان واحد ولكن في باطنهم أحزاب متفرقة وفرق متشاكسة، ويتصفون بأنهم يخشون الناس أكثر مما يخشون الله

هذا وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين

أما بعد

عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

واعلموا أن خير الكتب كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة

هذا وصلوا على السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم

اللهم طهر المسجد الأقصى من دنس اليهود

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " الحشر 10

عباد الله : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " النحل 90

وأقم الصلاة

1438-01-28 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي