أهمية التفكر

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 29 محرم 1438هـ | عدد الزيارات: 2273 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً النساء:1

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً الأحزاب:70-71

أما بعد

عباد الله: لعبادة التفكر في الإسلام أهمية عظمى، تظهر لمن أدرك أن وسيلة التفكر هي مناط التكليف، فلا تفكُّر إلا بالعقل، ولا تكليف على من فقد عقله وهذه العبادة العظمية تنعدم أو تقل كثيراً حينما تغلب الماديات على حياة الناس؛ فينشغلون باللهو والترف، مع أن هذه العبادة تقرب إلى الله تعالى، وتظهر حقيقة الدنيا ومتعها وزخرفها

بها يستدل العبد على عظمة الله بآياته الكونية، ويدرك سننه الشرعية، ويعلم حقيقة الوجود، وأهمية العمل لليوم الموعود، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران:191-192 قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "ومعنى الآية أن الله تعالى يقول(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وسيارات وثوابت وبحار، وجبال وقفار، وأشجار ونبات، وزروعٍ وثمار، وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم، والروائح والخواص(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي: تعاقُبها وتقارضهُما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم" اهـ

وهذا التفكر في خلق السموات والأرض إنما يفعله أولو الألباب، المؤمنون بالله تعالى، ويحرم منه الكافرون (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) غافر:13،(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ق:37-38

لذا كان القرآن يعجب من عقول الكافرين كيف لم تدرك عظمة الله بآياته الكونية (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الأعراف:185(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذريات:47-49 (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة:22، (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) الذريات:20، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) النازعـات:27-33

وفي خلق الإنسان من مواضع التفكر ما يدل على إتقان خلق الجبار تبارك وتعالى،(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) الروم:20 خلقه الله من منيٍّ يمنى، وحوَّله من نطفة إلى إنسان سويّ مكرم، وسخر له المخلوقات (قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) عبس:17-22(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) الزمر:6، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون:12-14

وفي أنواع الحيوان والنبات، وعجائب البحار وسائر المخلوقات ما يستحق أن يتفكر فيه العبد، (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) يس:36، (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات:49

وما لا نعلمه أكثر وأكثر تخبر عنه الآية القرآنية (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) النحل:8، آية موجزة في حروفها، محكمة في مبناها، عظيمة في معناها، تشمل ما خلق الله في الماضي والحاضر وما سيخلقه في المستقبل مما لا يعلمه البشر

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ * خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. العنكبوت:44-45

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

الخطبة الثانية

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين

من صفات المتفكرين الإسراعُ في الطاعات، والبعدُ عن المحرمات، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران:191

ومن صفات المشركين عدم التفكر فيما خلق الله تعالى، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف:105-106

وأكثر الناس تفكراً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أخرج ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد، عن عطاء بن أبي رباح قال : قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: وأيُّ شأنه لم يكن عجباً! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال: ذريني أتعبدُ لربي، فقام فتوضأ، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت: يا رسول الله! ما يبكيك، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً، ولِمْ لا أفعل وقد أنزل علي هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران:191-192ثم قال: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها" قيل للإمام الأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن

وقال أبو سليمان الداراني- رحمه الله-: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة" وفي قوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الأعراف:146 قال الحسن -رحمه الله-: معناه: "أمنع قلوبهم التفكر في أمري" ، وقال بشر الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه

أيها الأحبة: هذه منزلة تلك العبادة العظيمة، وهذا هو حال السلف مع التفكر، فما حالنا معه؟لا بد أن نراجع أنفسنا، ونحاول إصلاح قلوبنا؛ وذلك بالرجوع إلى الله تعالى، والمسارعة في الطاعات، و اكتسابِ الخيرات، والبعد عن المحرمات

أسأل الله تعالى أن يرزقنا التفكر، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " الصافات 180-182

1438-01-29 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 4 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي