الدرس الرابع والأربعون: الحديث 34 إزالة المنكر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 16 رجب 1437هـ | عدد الزيارات: 2078 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعتُ رِسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: مَن رَأى مِنكُم مُنكَرَاً فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ" رواه مسلم

راوي الحديث:

أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، ولد سنة 206 من الهجرة، فهو من أهم علماء الحديث عند أهل السنة والجماعة، وهو مصنف كتاب صحيح مسلم الذي يعتبر ثاني أصح كتب الحديث بعد صحيح البخاري، أخذ عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وتتلمذ على الإمام البخاري، اعترف علماء عصره ومن بعدهم له بالتقدم والإتقان في هذا العلم

ولد في نيسابور وكان مسكنه بها وكانت نيسابور في ذلك الوقت من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي وخصوصاً فيما يتعلق بالحديث النبوي وعلومه، وقد اشتهرت بعلو أسانيدها حتى أن السخاوي وصفها بـدار السنة والعوالي، فكثرت الرحلة إليها طلباً للعلم، فبلغ عدد علمائها والواردين عليها من طلبة العلم في القرن الثالث الهجري قرابة 1375 عالماً

كان أبوه فيمن يتصدرون حلقات العلم، عاش الإمام مسلم من كسب يده، وكان يعمل بالتجارة، وصفه الحاكم النيسابوري فقال عنه (كان تام القامة أبيض الرأس واللحية يرخي طرف عمامته بين كتفيه) روى عنه جماعات من كبار أئمة عصره منهم الترمذي وشيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء، وابن خزيمة، وأبو حاتم الرازي، كانت رحلات الإمام مسلم في طلب الحديث واسعة جداً، طاف خلالها البلاد الإسلامية عدة مرات، بدأت وعمره 14 سنة، حيث رحل إلى البصرة ثم إلى مكة للحج ثم إلى مصر ثم بلاد الشام فالعراق، ومنها إلى بلاد الري، فخراسان، ومكث بها 15 سنة في طلب الحديث جمع خلالها 300 ألف حديث، توفي الإمام مسلم بن الحجاج عشية يوم الأحد الخامس والعشرين من رجب سنة 261 هـ ومقبرته في رأس ميدان زياد بنصر أباد بظاهر نيسابور

مناسبة رواية أبي سعيد رضي الله عنه للحديث

روى مسلم عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه أي أدى الواجب عليه من إنكار مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال سمعت... الحديث، قول مروان ترك ما هنالك: أي تُرك ما كنت تعلمه من تقديم الصلاة على الخطبة

وعند البخاري ومسلم: أن أبا سعيد رضي الله عنه هو الذي جذبه من يده وقال له ما قيل، ورد عليه مروان بمثل ما ذكر، فلعل الرجل أنكر بلسانه أولاً، ثم حاول أبو سعيد رضي الله عنه تغيير المنكر ثانياً، والله أعلم

الشرح

مَنْ: اسم شرط جازم، ورأى فعل الشرط، وجملة فَليُغَيرْه بَيَدِه جواب الشرط
فقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ رَأَى) ظاهر الحديث أنه رؤية العين

قوله صلى الله عليه وسلم (مُنْكَراً) المنكر: هو ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه ينكر على فاعله أن يفعله

قوله صلى الله عليه وسلم (فَلْيُغَيِّرْهُ) أي يغير هذا المنكر بيده

مثاله: من رأى مع شخص آلة لهو لا يحل استعمالها أبداً فيكسرها أو زجاجة خمر فيريقها

قوله صلى الله عليه وسلم (بيده) مثل منع ظالم عن ضرب ونحوه

تنبيه: إذا كانت المخالفة من مسائل الاجتهاد فإنه لا ينكره، والعلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه

قوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي إن لم يستطع أن ينكره بيده (فَبِلِسَانِهِ) ويكون ذلك بالتوبيخ، والزجر مع استعمال الحكمة والتذكير بالله وأليم وعقابه ويغير المنكر باللسان وبالكتابة بأن يكتب في الصحف ويغرد عبر مواقع التواصل الاجتماعي

باللسان في خطبة الجمعة وفي اليوتيوب متوخياً الحكمة في ذلك

قوله صلى الله عليه وسلم (فَإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقَلْبِهِ) أي فلينكر بقلبه، أي يكرهه ويبغضه ويمقته ويتمنى أن لم يكن

قوله صلى الله عليه وسلم (وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ) (ذَلِكَ) أي الإنكار بالقلب (أَضْعَفُ الإِيْمَانِ ) أي أضعف مراتب الإيمان في تغيير المنكر

وجاء في رواية أخرى لمسلم (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) أي لم يبق وراء ذلك مرتبة أخرى

فوائد الحديث

أولاً: ولى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إذا رأت منكراً أن تغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ منكراً فَلْيُغَيِّرْهُ) ولو لم يكن من رجال الحسبة

ثانياً: لا يجوز إنكار المنكر حتى يتيقن أنه منكر وأنه منكر في حق الفاعل مثل الأكل والشرب في نهار رمضان للمريض والمسافر لا يعتبر منكر في حقهما

ثالثاً: لابد أن يكون المنكر منكراً لدى الجميع، فلو رأيت رجلاً أكل لحم جزور وذهب للصلاة ولم يتوضأ معتقداً أنه لا ينقض الوضوء فعليك أن تبين له الحق مستدلاً بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الوضوء منه

رابعاً: إذا رأيت منكراً وخفت الفتنة فلا تغيره لأن المفاسد يدرأ أعلاها بأدناها لقوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الأنعام: الآية 108

خامساً: أن اليد هي آلة الفعل، لقوله صلى الله عليه وسلم (فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) لأن الغالب أن الأعمال باليد، ولذلك تضاف الأعمال إلى الأيدي في كثير من النصوص، مثل قوله (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) الشورى: الآية30، والمراد: بما كسبتم بأيديكم أو أرجلكم أو أعينكم أو آذانكم

سادساً: الوجوب مشروط بالاستطاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ) وهذه قاعدة في الشريعة، قال الله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن: الآية16، وقال عزّ وجل (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مَا نَهَيتُكُم عَنهُ فَاجتَنِبوهُ، وَمَا أَمَرتُكُم بِهِ فَأتوا مِنهُ مَا استَطَعتُم) وهذا داخل في الإطار العام أن الدين يسر

سابعاً: إذا عجز الإنسان عن تغيير المنكر باليد ولا باللسان فليغير بالقلب، وذلك بكراهة المنكر وعزيمته على أنه متى قدر على إنكاره بيده أو لسانه فعل
ولا يعني ذلك أن يجلس مع أهل المنكر ويقول في نفسه (أنا كاره بقلبي) بل عليه أن يفارقهم إلا إذا أجبروه على الجلوس فحينئذ يكون معذوراً

ثامناً: القلب قوله عقيده وعمله حركته بنية أو رجاء أو خوف أو غير ذلك

تاسعاً: الإيمان عمل باليد واللسان ونية بالقلب، لقوله صلى الله عليه وسلم (الإيمَانُ بِضعٌ وَسَبعُونَ شُعبَة فأَعلاهَا: قَولُ لاَ إِلهَ إِلا الله، وَأَدناهَا إِماطَةُ الأَذَى عَنِ الطَريقِ والحياء شعبة من الإيمان) أخرجه البخاري ومسلم، فقول: لا إله إلا الله قول لسان، وإماطة الأذى عن الطريق فعل جوارح والحياء عمل قلب

عاشراً: مجاهدة أهل الباطل: أخرج مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كانت له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تَخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ومعنى حواريون: خلصاء أصفياء

الحادية عشرة: يجب على المسلم أن ينكر المنكر حسب طاقته وأن يغيره حسب قدرته على تغييره بالفعل أو القول أو القلب

الثانية عشرة: إنكار القلب يُخلص المسلم من المسؤولية إذا كان عاجزاً عن الإنكار باليد أو اللسان قال ابن مسعود رضي الله عنه: يوشك من عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره

الثالثة عشرة: التفسير الصحيح لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية إنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

الرابعة عشرة: ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة، كما قال تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) النحل آية: 125

الخامسة عشرة: المصابرة وتحمل الأذى في الأمر والنهي قال الإمام أحمد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد، يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين، ويحرم عليه الفرار منهما، وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل، قال تعالى (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) لقمان آية: 17، وسماع السب لا يسقط عنه ذلك

السادسة عشرة: من آداب الآمر والناهي أن يكون ممتثلاً لما يأمر به، مجتنباً لما ينهى عنه، حتى يكون لأمره ونهيه أثر في نفس من يأمره وينهاه، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/7/16 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر