الدرس الرابع عشر: أطوار خلق الإنسان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 5 شهر رمضان 1436هـ | عدد الزيارات: 2518 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أبي عبد الرحمن عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ :إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ الرٌّوْحَ،وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ. فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" أخرجه البخاري ومسلم

أهميته:

هذا الحديث عظيم جامع لأحوال الإنسان من مبدأ خلقه ومجيئه إلى هذه الحياة الدنيا إلى آخر أحواله من الخلود في دار السعادة أو دار الشقاء بما كان منه في الحياة الدنيا من كسب وعمل، وفق ما سبق في علم الله فقدره وقضاه

لغة الحديث

الصادق: في جميع ما يقوله؛ إذ هو الحق الصدق المطابق للواقع

المصدوق: فيما أوحي إليه، لأن الملك جبريل يأتيه بالصدق، والله سبحانه وتعالى يصدقه فيما وعده به

يجمع: يضم ويحفظ

خلقه: أي مادة خلقه، وهو الماء الذي يخلق منه

في بطن أمه: في رحمها

نطفة: أصل النطفة الماء الصافي، والمراد هنا: منياً

علقة: قطعة دم لم تيبس، وسميت علقة لعلوقها بيد الممسك بها

مضغة: قطعة لحم بقدر ما تمضغ

فيسبق عليه الكتاب: الذي سبق في علم الله

فقه الحديث

أولاً: أطوار الجنين في الرحم: يدل هذا الحديث على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوماً منها يكون في طور؛ فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المائة وعشرين يوماً ينفخ فيه الملك الروح، ويكتب له هذه الكلمات الأربعة، وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز تقلب الجنين في هذه الأطوار؛ فقال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ" (الحج 5)

وقال تعالى "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون 12- 14)

وفي هذه الآية ذكر الله الأطوار الأربعة المذكورة في الحديث وزاد عليها ثلاثة أطوار أخرى، فأصبحت سبعاً، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خلق ابن آدم من سبع ثم يتلو هذه الآية

ونلحظ في هذا التدرج تعليم الله تعالى لعباده التأني في أمورهم والبعد عن التسرع والعجلة

ثانياً: نفخ الروح: اتفق العلماء على أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مضي مائة وعشرين يوماً على الاتصال بين الزوجين، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس

إسقاط الجنين: في الشهر الأول جائز لأنه ما زال نطفة وإسقاطه في الشهر الثاني أو الثالث أو الرابع لا يجوز إلا للضرورة أما بعد نفخ الروح أي في الشهر الخامس فلا يجوز بأي حال من الأحوال حتى لو قال الأطباء إذا لم يسقط الجنين ماتت الأم لأن الأعمار بيد الله وأما عن أحكام النساء، إذا أسقطت في الشهر الثالث تغتسل وتصلي لأنه دم فساد وفي الشهر الرابع دم نفاس لا تصلي حتى تطهر والسقط بعد الشهر الرابع يغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى ويعق وما قبل الخامس يرمى لعدم نفخ الروح فيه نصت على ذلك اللجنة الدائمة

رابعاً: جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير ذلك: أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دماً في الرحم فذلك جمعها وهو وقت كونها علقة. أخرج ابن أبي حاتم

خامساً: قوله صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع - أي حتى يقرب أجله تماماً- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" وهنا إشكال على بعض الناس كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها

ويجاب على ذلك بالحديث الثاني عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس وهو من أهل النار"

فيدع العمل الأول الذي كان يعمله وذلك لوجود دسيسة في قلبه والعياذ بالله هوت به إلى هاوية، أوضحنا ذلك لئلا يظن بالله الظن السوء فو الله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً فالله عز وجل أكرم من عبده لكن لا بد من بلاء في القلب

مثال ذلك: ذاك الرجل الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته وأصيب بسهم من العدو فجزع وسل سيفه وقتل نفسه ولما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله قال:" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار" وسبق أن قال عنه عليه الصلاة والسلام:" هو من أهل النار". وعلى العكس من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم" وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" مثال ذلك قصة الأصيرم من بني عبد الأشهل من الأنصار،كان منابذاً للدعوة الإسلامية عدواً لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في الجهاد وقتل شهيداً

سادساً: قوله صلى الله عليه وسلم "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" والمرسل هو الله والروح في الجسد تنفخ نفخاً ولكن لا تعلم الكيفية لأن هذا من أمور الغيب، ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا

سابعاً: أن الملائكة عليهم السلام عبيد يؤمرون وينهون، لقوله صلى الله عليه وسلم:" فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمرُ له هو الله عزّ وجل"

والسؤال عن اللغة التي يكتبون بها بدعة وهناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في صحيفة، والجمع بينهما سهل إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما شاء الله وتكتب على جبين الإنسان وأن الإنسان لا يدري ماذا كتب له، ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما ينفعه، وهذا أمر مسلّم، فكلنا لا يدري ما كتب له، ولكننا مأمورون أن نسعى لتحصيل ما ينفعنا وأن ندع ما يضرنا ونهاية بني آدم أحد أمرين إما الشقاء وإما السعادة، قال تعالى "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ" وقال تعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل السعادة

ثامناً: في هذا الحديث إثبات القدر كما هو مذهب أهل السنة وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها قال الله تعالى "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ "(الأنبياء 23) ولا اعتراض عليه في ملكه يفعل في ملكه ما يشاء قال الإمام السمعاني : سبيل معرفة هذا الباب التوفيق من الكتابة والسنة دون محض القياس ومجر العقول

فالله تعالى يعلم أحوال الخلق قبل أن يخلقهم فما يكون منهم شيء من إيمان وطاعة أو كفر ومعصية وسعادة وشقاء إلا بعلم الله وإرادته

تاسعاً: الأعمال بالخواتيم روى البخاري عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما الأعمال بالخواتيم" فلا يغتر بظاهر حال الإنسان فإن العبرة بالخواتيم، نسأل الله تعالى الثبات على الحق والخير وحسن الخاتمة

عاشراً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" وروى مسلم "إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه كيف يشاء" ثم قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم مصرف القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك"

الحادي عشر: قال ابن حجر الهيتمي:إن خاتمة السوء تكون والعياذ بالله بسبب دسيسة باطنية للعبد، ولا يطلع عليها الناس، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خير خفية تغلب عليه آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1436/9/3 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر