الدرس 17 الجزء الأول ‌‌كلمة في المعضد

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 27 ربيع الأول 1444هـ | عدد الزيارات: 253 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:

تختلف الأسباب في المِعْضَدُ، وتتنوع كثيرا مع قطع النظر عن الاعتقاد، فمنها ما هو جائز، ومنها ما هو مكروه ويجوز عند الحاجة، ومنها ما هو محرم، وإن كان الفاعل يعتقد أنها أسباب وأن الشافي هو الله وحده.

فمن الأول: ما يتعاطاه الناس اليوم من الأدوية المباحة، كتناول الحبوب والإبر والضمادات، والأدهان ضد الأمراض التي يقرر الأطباء علاجها بذلك، وكالأشعة الكهربائية فهذه وأشباهها من الأسباب الجائزة، التي جربت وعرف نفعها من دون مضرة، إذا اعتقد متعاطيها أنها أسباب وأن الشفاء من الله وحده.

ومن الأسباب المكروهة الكيُّ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفاء في ثلاث كية نار وشرطة محجم وشربة عسل وما أحب أن أكتوي " (قلت: ورد الحديث في صحيح البخاري بلفظ"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، قَالَ: الشِّفَاءُ في ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نَارٍ، .") . وفي لفظ آخر «وأنا أنْهَى أُمَّتي عَنِ الكَيِّ.» (رواه البخاري عن عبد الله بن عباس) .

أخذ العلماء من هذا الحديث الشريف كراهة الكي، وأنه إنما يستعمل عند الحاجة، وينبغي أن يكون آخرَ الطبِ، عند تعذر أو تعسر غيره.

والنوع الثالث: وهو التداوي بالأسباب المحرمة، التداوي بالخمر ولحوم السباع، وأشباه ذلك من الأطعمة ‌‌والأشربة المحرمة فهذه الأشياء لا يجوز التداوي بها، ولو زعم بعض الناس أن فيها نفعا، ولو اعتقد أن الله هو الشافي وأنها أسباب، وما ذلك إلا للأدلة الدالة على تحريم التداوي بالنجاسات والمحرمات، ولو قدر أن فيها بعض النفع؛ لأن ضرره أكبر؛ ولأنه ليس كل ما فيه نفع يباح استعماله، بل لا بد من أمرين:

أحدهما: أن لا يرد فيه نهي خاص عن الشارع عليه الصلاة والسلام.

والأمر الثاني: أن لا تكون مضرته أكبر من نفعه، فإن كانت مضرته أكبر لم يجز استعماله، وإن لم يرد فيه نهي؛ لأن الشرع الكامل ورد بتحريم ما يغلب ضرره، كالخمر، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام " (قلت: جاء الحديث بهذا اللفظ "تداوَوْا عبادَ اللهِ ، فإنَّ اللهَ تعالى لم يضعْ داءً إلا وضع له دواءً ؛ غيرَ داءٍ واحدٍ ، الهَرَمُ") وفي لفط آخر: «إنَّ اللَّهَ لم يجعل شفاءَكُم فيما حرَّمَ عليكُم » (قلت: الحديث صحيح موقوف على ابن مسعود ذكره الألباني في غاية المرام ).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم «أن رجلا سأله عن الخمر يصنعها للدواء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدواء ولكنها داء "(صحيح مسلم ) (قلت: جاء الحديث في صحيح مسلم بهذا اللفظ"أنَّ طَارِقَ بنَ سُوَيْدٍ الجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقالَ: إنَّما أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقالَ: إنَّه ليسَ بدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ. ").

ومما تقدم تعلمون أن المعيار في التحليل والتحريم ليس هو اعتقاد الإنسان، وإنما المعيار هو الأدلة الشرعية؛ لأن الإنسان قد يعتقد أن الشفاء من الله، ويتعاطى أسبابا محرمة كأهل الشرك فإنهم يتعلقون بآلهتهم ويعبدونها من دون الله، ويقولون إنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه، ولا يعتقدون أنها تتصرف بذاتها في شفائهم، أو رد غائبهم أو الدفاع عنهم، كما قال الله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس الآية 18) الآية، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر الآية 2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر الآية 3) والأدلة في هذا المعنى كثيرة.

وقد يتعاطى الإنسان أسبابا هي في نفسها جائزة، كالرقية الشرعية، وتناول الحبوب، والإبر المشتملة

على المواد المباحة، فيحرم عليه تناولها إذا اعتقد أنها هي الشافية وليس ربه وخالقه، وأنه هو الذي بيده الشفاء.

إذا عرف هذا فمسألة المعضد، هل تلحق بالأسباب الجائزة كالإبر والحبوب، أو المكروهة كالكي ونحوه؟ أو تلحق بالأسباب المحرمة، كتعليق التمائم والحلقات والخيوط والودع، على الأولاد عن العين أو الجن أو بعض الأمراض؟ وكتعليق الأوتار على الدواب كما كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، وقد زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبر أنه من الشرك، مع أنهم يعتقدون أن الله سبحانه هو النافع الضار، وهو الذي يدبر الأمر، وهو الذي يكشف الضر ويجلب النفع، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس الآية 31) فهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين عن هذه الأشياء وأخبر أنهم سيقولون أن فاعلها هو الله وحده ولهذا قال تعالى: {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس الآية 31) المعنى أفلا تتقون الله في ترك الشرك به، وأنتم تعلمون أنه سبحانه هو المتصرف في هذه الأمور والمدبر لها.

ومن أجل ذلك اختلفت وجهة نظر المشايخ الذين بحثت معهم موضوع المعضد، هل يلحق بالأسباب الأخيرة؟

الأقرب إلحاقه بالأسباب الأخيرة المحرمة؛ لأنه من جنس الحلقات والتمائم والأوتار التي جاء فيها النهي؛ لأن الذين تعاطوها من أهل الجاهلية، ومن سلك سبيلهم، إنما استعملوها لظنهم أن فيها نفعا جعله الله فيها وخصها به، وإن كان الله هو النافع الضار، لكنه سبحانه خلق في مخلوقاته أنواع النفع، وأنواع الضرر، وفاوت بين ذلك على مقادير مختلفة، فمن أجل ذلك وقع الناس فيما وقعوا فيه، من تعاطي الأسباب الجائزة والمحرمة، ولا سبيل إلى التمييز بين هذا وهذا، إلا من طريق الشرع المطهر، فما عرف أنه من جنس الأسباب المحرمة فهو محرم، وإن قدر فيه بعض النفع، وما عُرِفَ أنه من جنس الأسباب الجائزة فهو جائز، وإن كان فيه بعض الضرر، إذا كانت منفعته أكثر، وما عُرِفَ أن الشرع نهى عنه ومنع منه فالواجب تركه مطلقا، كالخمر ولحوم السباع، ومعلوم أن لبس المعضد يبقى على الإنسان كما تبقى الحروز والتمائم، الأيام والليالي والسنوات، بخلاف الحبة التي يأكلها، ويفرغ منها، وبخلاف الإبرة التي يستعملها وينتهي منها، فليس المعضد من جنس هذه الأشياء، بل هو أشبه بلبس الحلقة، وهو أشبه بلبس التمائم والودع والأوتار، ومما تقدم تعلمون وجهة نظري ونظر المشايخ الذين قالوا بمنع لبسه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢٦ ربيع الأول ١٤٤٤ هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
 الدرس 146 الجزء الرابع  الاستسلام لشرع الله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 145 الجزء الرابع: وجوب طاعة الله ورسوله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 144  الجزء الرابع الحلف بغير الله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 143 الجزء الرابع تأويل الصفات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 142 الجزء الرابع التحدث بالنعم والنهي عن الإسراف - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 141 الجزء الرابع ‌‌أخلاق أهل العلم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر