الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
مما لا شك فيه لكل ذي عقل سليم أن الأمم لابد لها من موجّهٍ يوجهُهَا ، ويدلها على طريق السداد ، وأمةُ محمد هي أفضل الأمم وأخصها بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير ، مقتدية بإمامها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك من أسباب سعادتها ونجاتها في الدنيا والآخرة ، فالواجب على كل مسلم بقدر استطاعته وعلى حسب علمه ومقدرته ، أن يشمر عن ساعد الجد في النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ ذمته ويهتدي به غيره، قال تعالى "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " الذاريات 55
ولا ريب أن كل مؤمن بل كل إنسان في حاجة شديدة إلى التذكير بحق الله وحق عباده والترغيب في أداء ذلك ، وفي حاجة شديدة إلى التواصي بالحق والصبر عليه ، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن صفة الرابحين وأعمالهم الحميدة وعن صفة الخاسرين وأخلاقهم الذميمة ، وذلك في آيات كثيرات من القرآن الكريم ، وأجمَعُها ما ذكره الله سبحانه في سورة العصر حيث قال " والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " .(سورة العصر)
فأرشد عباده ، عز وجل ، في هذه السورة القصيرة العظيمة إلى أن أسباب الربح تنحصر في أربع صفات :
الأولى : الإيمان بالله ورسوله .
والثانية : العمل الصالح .
والثالثة : التواصي بالحق .
والرابعة : التواصي بالصبر .
فمن أكْمَلَ هذه المقاماتِ الأربعةَ فَازَ بأعظم الربح واستحق من ربه الكرامة والفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة ومن حاد عن هذه الصفات ولم يتخلق بها باء بأعظم الخسران ، وصار إلى الجحيم دار الهوان ، وقد شرح الله سبحانه في كتابه الكريم صفات الرابحين ونوعها وكررها في مواضع كثيرة من كتابه ليعرفها طالبُ النجاة فيتخلق بها ويدعو إليها ، وشرح صفات الخاسرين في آيات كثيرة ، ليعرفها المؤمنُ ويبتعدَ عنها ، ومن تدبر كتاب الله وأكثرَ من تلاوته عرف صفات الرابحين وصفات الخاسرين على التفصيل ، كما قال سبحانه " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا " الإسراء 9 ، وقال تعالى " كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب " (ص 29) .
فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال : قال صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ" رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع على رءُوس الأشهاد يوم عرفة "وإني قد تركتُ فيكم ما لن تضِلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به ، كتابَ اللهِ " (قلت: صححه الألباني في صحيح الجامع عن جابر بن عبد الله) .
فبيَّن الله سبحانه في هذه الآيات أنه أنزل القرآن ليتدبره العباد ويتذكروا به ويتبعوه ويهتدوا به إلى أسباب السعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة ، وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعلمه وتعليمه ، وبيَّن أن خير الناس هم أهل القرآن الذين يتعلمون القرآن ويعلمونه غيرَهم للعمل به واتباعه والوقوف عند حدوده ، والحكمِ به والتحاكم إليه .
وأوضح عليه الصلاة والسلام للناس في المجمع العظيم يوم عرفة أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله سائرين على تعاليمه .
ولمَّا استقام السلف الصالح والصدر الأول من هذه الأمة على تعاليم القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أعزهم الله ورفع شأنهم ومكَّن لهم في الأرض تحقيقاً لما وعدهم الله به في قوله سبحانه " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا " النور55
ومن أهم الواجبات على المسلمين العنايةُ بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفقهُ فيها والسيرُ على ضوئها ؛ لأنها الوحي الثاني ، وهي المفسرة لكتاب الله والمرشدة إلى ما قد يخفى من معانيه ، كما قال سبحانه في كتابه الكريم " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون " النحل 44 ، وقال تعالى " وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " النحل 64 ، وقال سبحانه وتعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " الأحزاب 21 ، وقال تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " النور 63 ، والآيات الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته والتمسك بها والتحذير من مخالفتها أو التهاون بها كثيرة جدا ، يعلمها من تدبر القرآن الكريم وتفقَّه فيما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة .
ولا صلاح للعباد ولا سعادة ولا عزة ولا كرامة ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمهما والتواصي بهما في جميع الأحوال والصبر على ذلك كما قال الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون " الأنفال 24 ، وقال تعالى " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل 97 .
فأرشد الله سبحانه العباد في هذه الآيات الكريمات إلى أن الحياة الطيبة والراحة والطمأنينة والعزة الكاملة إنما تحصل لمن استجاب لله ولرسوله واستقام على ذلك قولاً وعملاً ، وأما من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام واشتغل عنهما بغيرهما فإنه لا يزال في العذاب والشقاء ، في الهموم والغموم والمعيشة الضنك ، وإنْ مَلَكَ الدنيا بأسرها ، ثم ينقل إلى ما هو أشد وأفظع وهو عذاب النار، عياذا بالله من ذلك ، كما قال تعالى "وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون* فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" التوبة 54، 55 .
وقال تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"طه 123، 124 .
فالمؤمن في نعيم في دنياه وقبره وآخرته ، وإن أصابه في الدنيا ما أصابه من أنواع المصائب كالفقر والمرض ونحوها ، والفاجر في جحيم في دنياه وقبره وآخرته وإن أدرك ما أدرك من نعيم الدنيا ، وما ذاك إلا لأن النعيم في الحقيقة هو نعيم القلب وراحتُه وطمأنينتُه ، فالمؤمنُ بإيمانه بالله واعتماده عليه واستغنائه به وقيامه بحقه وتصديقه بوعده مطمئنُ القلبِ منشرحُ الصدرِ مرتاحُ الضميرِ ، والفاجر لمرض قلبه وجهله وشكه وإعراضه عن الله وتشعب قلبه في مطالب الدنيا وشهواتها في عذاب وقلق وتعب دائم ، ولكن سكرة الهوى والشهوات تعمي العقول عن التفكير في ذلك والإحساس به .
فيا معشر المسلمين انتبهوا لما خلقتم له من عبادة الله وطاعته وتفقهوا في ذلك واستقيموا عليه حتى تلقوا ربكم عز وجل ، فتفوزوا بالنعيم المقيم وتسلموا من عذاب الجحيم .
قال الله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون " فصلت 30 ، 31 .
نسأل الله أن يجعلنا وجميع المسلمين منهم ، وأن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، إنه على كل شيء قدير .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .