الدرس (3) الجزء الأول : أنواع الشرك

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 6 ذو القعدة 1443هـ | عدد الزيارات: 320 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد:

ضد التوحيد: الشرك وهو أنواع ثلاثة، والحقيقة أنه نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر.

فالشرك الأكبر: هو ما يتضمن صرف العبادة لغير الله أو بعضها، أو يتضمن جحد شيء مما أوجب الله من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كالصلاة، وصوم رمضان، أو يتضمن جحد شيء مما حرم الله، مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر ونحوهما، أو يتضمن طاعة المخلوق في معصية الخالق على وجه الاستحلال لذلك، وأنه يجوز أن يطاع فلان أو فلانة، فيما يخالف دين الله عز وجل، من رئيس أو وزير أو عالم أو غيرهم

والنوع الثاني: الشرك الأصغر، وهو ما ثبت بالنصوص تسميته شركا، لكنه لم يبلغ درجة الشرك الأكبر، فهذا يسمى شركا أصغر مثل: الرياء والسمعة كمن يقرأ يرائي، أو يصلي يرائي، أو يدعو إلى الله يرائي ونحو ذلك. فقد ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة للمرائين: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟ » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن محمود بن لبيد الأشهلي الأنصاري رضي الله عنه ورواه الطبراني أيضا والبيهقي وجماعة مرسلا عن محمود المذكور وهو صحابي صغير لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن مرسلات الصحابة صحيحة وحجة عند أهل العلم، وبعضهم حكاه إجماعا، ومن ذلك قول العبد: ما شاء الله وشاء فلان، أو لولا الله وفلان، أو هذا من الله ومن فلان.

هذا كله من الشرك الأصغر، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ». (صحيح أبي داود للألباني)

ومن هذا ما رواه النسائي عن قتيلة «أن اليهود قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شاء محمد »(ورد الحديث في صحيح النسائي للألباني بلفظ"أنَّ يَهوديًّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: إنَّكم تندِّدونَ، وإنَّكم تُشرِكونَ تقولونَ: ما شاءَ اللَّهُ وشئتَ، وتقولونَ: والكعبةِ، فأمرَهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا أرادوا أن يحلِفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبةِ، ويقولون: ما شاءَ اللَّهُ ثمَّ شئتَ") وفي رواية للنسائي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رجلا قال: يا رسول الله ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده ».

فهذا وأشباهه من جنس الشرك الأصغر. وهكذا الحلف بغير الله، كالحلف بالكعبة، والأنبياء والأمانة وحياة فلان، وبشرف فلان ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأصغر، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي رحمهم الله بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » (صححه الألباني في إرواء الغليل)، ومن هذا ما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وهذه أنواع من الشرك الأصغر، وقد يكون أكبر على حسب ما يكون في قلب صاحبه، فإذا كان في قلب الحالف بالنبي أو البدوي أو الشيخ فلان، أنه مثل الله، أو أنه يدعى مع الله، أو أنه يتصرف في الكون مع الله أو نحو ذلك، صار شركا أكبر بهذه العقيدة، أما إذا كان الحالف بغير الله لم يقصد هذا القصد، وإنما جرى على لسانه من غير هذا القصد لكونه اعتاد ذلك، كان ذلك شركا أصغر.

وهناك شرك يقال له: الشرك الخفي ذكر بعض أهل العلم أنه قسم ثالث، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه » خرجه الإمام أحمد.(صححه الألباني في صحيح ابن ماجه بلفظ"خرج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ونحنُ نتذاكرُ المسيحَ الدجالَ فقال ألَا أُخبركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيحِ الدجالِ قال قلنا بلى فقال الشركُ الخفيُّ أن يقومَ الرجلُ يُصلي فيُزيِّنُ صلاتَه لما يرى من نظرِ رجلٍ")

والصواب: أن هذا ليس قسما ثالثا، بل هو من الشرك الأصغر، وهو قد يكون خفيا؛ لأنه يقوم بالقلوب، كما في هذا الحديث، وكالذي يقرأ أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يجاهد مرائيًا .

وقد يكون خفيا من جهة الحكم الشرعي بالنسبة إلى بعض الناس كالأنواع التي في حديث ابن عباس السابق. وقد يكون خفيا وهو من الشرك الأكبر كاعتقاد المنافقين.. فإنهم يراءون بأعمالهم الظاهرة، وكفرهم خفي لم يظهروه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا* مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (النساء 142، 143) الآية.

والآيات في كفرهم وريائهم كثيرة، نسأل الله العافية.

وبما ذكرنا يعلم أن الشرك الخفي لا يخرج عن النوعين السابقين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وإن سمي خفيا. فالشرك يكون خفيا ويكون جليا.

فالجلي: دعاء الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر لهم، ونحو ذلك.

والخفي: ما يكون في قلوب المنافقين يصلون مع الناس، ويصومون مع الناس، وهم في الباطن كفار يعتقدون جواز عبادة الأوثان والأصنام، وهم على دين المشركين. فهذا هو الشرك الخفي؛ لأنه في القلوب.

وهكذا الشرك الخفي الأصغر، كالذي يقصد بقراءته ثناء الناس، أو بصلاته أو بصدقته أو ما أشبه ذلك، فهذا شرك خفي، لكنه شرك أصغر.

فاتضح بهذا أن الشرك شركان: أكبر، وأصغر، وكل منهما يكون خفيا: كشرك المنافقين.. وهو أكبر، ويكون خفيا أصغر كالذي يقوم يرائي في صلاته أو صدقته أو دعائه لله، أو دعوته إلى الله أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر أو نحو ذلك.

فالواجب على كل مؤمن: أن يحذر ذلك، وأن يبتعد عن هذه الأنواع، ولا سيما الشرك الأكبر، فإنه أعظم ذنب عصي الله به، وأعظم جريمة وقع فيها الخلق، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام 88) فمن مات عليه فهو من أهل النار جزما، والجنة عليه حرام، وهو مخلد في النار أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك.

أما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، وصاحبه على خطر عظيم، لكن قد يمحى عن صاحبه برجحان الحسنات، وقد يعاقب عليه ببعض العقوبات لكن لا يخلد في النار خلود الكفار، فليس هو مما يوجب الخلود في النار، وليس مما يحبط الأعمال، ولكن يحبط العمل الذي قارنه.

فالشرك الأصغر يحبط العمل المقارن له، كمن يصلي يرائي فلا أجر له، بل عليه إثم.

وهكذا من قرأ يرائي فلا أجر له. بل عليه إثم، بخلاف الشرك الأكبر، والكفر الأكبر فإنهما يحبطان جميع الأعمال.

فالواجب على الرجال والنساء، وعلى العالم والمتعلم، وعلى كل مسلم، أن يعنى بهذا الأمر ويتبصر فيه، حتى يعلم حقيقة التوحيد بأنواعه، وحتى يعلم حقيقة الشرك بنوعيه: الأكبر والأصغر، وحتى يبادر بالتوبة الصادقة مما قد يقع منه من الشرك الأكبر، أو الشرك الأصغر، وحتى يلزم التوحيد، ويستقيم عليه، وحتى يستمر في طاعة الله، وأداء حقه، فإن التوحيد له حقوق، وهي أداء الفرائض، وترك المناهي، فلا بد مع التوحيد من أداء الفرائض، وترك المناهي، ولا بد أيضا من ترك الإشراك كله: صغيره وكبيره.

فالشرك الأكبر ينافي التوحيد، وينافي الإسلام كليا. والشرك الأصغر ينافي كماله الواجب، فلا بد من ترك هذا وهذا.

فعلينا جميعا أن نعنى بهذا الأمر، ونتفقه فيه، ونبلغه للناس بكل عناية وبكل إيضاح حتى يكون المسلم على بينة من هذه الأمور العظيمة ، والله المسئول عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا والمسلمين جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

1443/11/6 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 139 الجزء الرابع  الحاجة للقضاء الشرعي - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 138 الجزء الرابع  أخلاق المؤمنين والمؤمنات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 137 الجزء الرابع هذا هو طريق الرسل وأتباعهم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 136 الجزء الرابع توضيح معنى الشرك بالله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 135 الجزء الرابع  بيان معنى كلمة لا إله إلا الله (3) - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 134 الجزء الرابع  بيان معنى كلمة لا إله إلا الله (2) - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر