الدرس 136 العذر بالجهل

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 29 ربيع الأول 1443هـ | عدد الزيارات: 369 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

دعوى الجهل والعذر به فيه تفصيل ، وليس كل واحد يُعذر بالجهل ، فالأمور التي جاء بها الإسلام وبيَّنها الرسول للناس وأوضحها كتاب الله وانتشرت بين المسلمين لا تُقبل فيها دعوى الجهل ، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة وأصل الدين ، فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليوضح للناس دينهم ويشرحه لهم ، وقد بلَّغ البلاغ المبين وأوضح للأمة حقيقة دينها وشرح لها كل شيء وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، وفي كتاب الله الهدى والنور فإذا ادَّعى بعض الناس الجهل فيما هو معلوم من الدين بالضرورة ، وقد انتشر بين المسلمين ، كدعوى الجهل بالشرك وعبادة غير الله عز وجل ، أو دعوى أن الصلاة غير واجبة ، أو أن صيام رمضان غير واجب أو أن الزكاة غير واجبة ، أو أن الحج مع الاستطاعة غير واجب فهذا وأمثاله لا تُقبل فيه دعوى الجهل ممَّن هو بين المسلمين لأنها أمور معلومة بين المسلمين ، وقد عُلمت بالضرورة من دين الإسلام وانتشرت بين المسلمين فلا تُقبل دعوى الجهل في ذلك ، وهكذا إذا ادَّعى أحد بأنه يجهل ما يفعله المشركون عند القبور أو عند الأصنام من دعوة الأموات والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم ، أو الذبح للأصنام أو الكواكب أو الأشجار أو الأحجار ، أو طلب الشفاء أو النصر على الأعداء من الأموات أو الأصنام أو الجن أو الملائكة أو الأنبياء ، فكل هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وأنه شرك كبير ، وقد أوضح الله ذلك في كتابه الكريم وأوضحه رسوله صلى الله عليه وسلم وبقي ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يُنذر الناس هذا الشرك ، وهكذا في المدينة عشر سنين ، يوضح لهم وجوب إخلاص العبادة لله وحده ويتلو عليهم كتاب الله مثل قوله تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. " الإسراء 23 ، وقوله سبحانه " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " الفاتحة 5 ، وقوله عز وجل "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ" البينة 5 ، وقوله سبحانه " فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ. " الزمر 2 ، 3 ، وقوله سبحانه " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" الأنعام 162 ، 163 ، وبقوله سبحانه مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ ​​​​​​​فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " الكوثر 1 ، 2 ، وبقوله سبحانه وتعالى " وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" المؤمنون 117 ، وهكذا الاستهزاء بالدين والطعن فيه والسخرية به والسب كل هذا من الكفر الأكبر وممَّا لا يُعذر فيه أحد بدعوى الجهل ، لأنه معلوم من الدين بالضرورة أن سبَّ الدين أو سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر الأكبر وهكذا الاستهزاء والسخرية ، قال تعالى " قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ ​​​​​​​لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ." التوبة 65 ، 66 .

فالواجب على أهل العلم في أي مكان أن ينشروا هذا بين الناس وأن يظهروه حتى لا يبقى للعامة عذر وحتى ينتشر بينهم هذا الأمر العظيم ، وحتى يتركوا التعلق بالأموات والاستعانة بهم في أي مكان في مصر أو الشام أو العراق أو في المدينة عند قبر النبي أو في مكة أو غير ذلك وحتى ينتبه الحجيج وينتبه الناس ويعلموا شرع الله ودينه ، فسكوت العلماء من أسباب هلاك العامة وجهلهم ، فيجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوا الناس دين الله وأن يعلموهم توحيد الله وأنواع الشرك بالله حتى يدعوا الشرك على بصيرة وحتى يعبدوا الله وحده على بصيرة وهكذا ما يقع عند قبر البدوي أو الحسين رضي الله عنه أو عند قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني أو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو عند غيرهم يجب التنبيه على هذا الأمر وأن يعلم الناس أن العبادة حق لله وحده ليس لأحد فيها حق كما قال الله عز وجل " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّيْنَ حُنفاءَ. " البينة 5 ، وقد خلق الله الثقلين ليعبدوه وأمرهم بذلك ، لقوله سبحانه " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56 ، وعبادته هي : طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وإخلاص العبادة له وتوجيه القلوب إليه ، قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " البقرة 21 .

أما المسائل التي قد تخفى ، مثل بعض مسائل المعاملات وبعض شؤون الصلاة وبعض شؤون الصيام فقد يُعذر فيها الجاهل ، وقد عذر النبي علي الذي أحرم في جبة وتلطخ بالطيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اخلع عنك الجبة واغسل عنك هذا الطيب واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك "(ورد الحديث في صحيح البخاري عن يعلي بن أمية رضي الله عنه بلفظ "اخْلَعْ عَنْكَ الجُبَّةَ، واغْسِلْ أثَرَ الخَلُوقِ عَنْكَ، وأَنْقِ الصُّفْرَةَ، واصْنَعْ في عُمْرَتِكَ كما تَصْنَعُ في حَجِّكَ.") ، ولم يأمره بفدية لجهله ، وهكذا بعض المسائل التي قد تخفى يُعلَّم فيها الجاهل ويُبصَّر فيها ، أما أصول العقيدة وأركان الإسلام والمحرمات الظاهرة فلا يُقبل في ذلك دعوى الجهل من أي أحد بين المسلمين فلو قال أحد وهو بين المسلمين ، إنني ما أعرف أن الزنا حرام فلا يُعذر ، أو قال ما أعرف أن عقوق الوالدين حرام فلا يعذر بل يُضرب ويؤدب ، أو قال ما أعرف أن اللواط حرام فلا يُعذر ، لأن هذه أمور ظاهرة معروفة بين المسلمين في الإسلام .

لكن لو كان في بعض البلاد البعيدة عن الإسلام أو في مجاهل أفريقيا التي لا يوجد حولها مسلمون قد يقبل منه دعوى الجهل وإذا مات على ذلك يكون أمره إلى الله ويكون حكمه حكم أهل الفترة والصحيح أنهم يُمتحنون يوم القيامة ، فإن أجابوا وأطاعوا دخلوا الجنة وإن عصوا دخلوا النار ، أما الذي بين المسلمين ويقوم بأعمال الكفر بالله ويترك الواجبات المعلومة ، فهذا لا يعذر لأن الأمر واضح والمسلمون بحمد الله موجودون ، ويصومون ويحجون ويعرفون أن الزنا حرام وأن الخمر حرام وأن العقوق حرام وكل هذا معروف بين المسلمين وفالق بينهم فدعوى الجهل في ذلك دعوى باطلة .
هجر المسلم لأمه منكر وعقوق عظيم ، ويجب عليه التوبة إلى الله من ذلك وعليه أن يرجع إلى برها والإحسان إليها والأخذ بخاطرها واستسماحها هذا هو الواجب عليه وليس له أن يبقى على الهجر والعقوق ، أما صلاته وصومه وعباداته فلا تبطل ، فعباداته صحيحة وأعماله صحيحة إذا أدَّاها على الوجه الشرعي ، ولكن يكون إيمانه ضعيفاً ويكون إيمانه ناقصاً بهذه المعصية ، فإن المعاصي عند أهل السنة تنقص الإيمان وتضعف الإيمان ولكن لا يكفر صاحبها ، إنما يكفر بالكبيرة عند الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ، وهم ظلمة فجرة في هذا القول فقد أخطئوا وغلطوا عند أهل السنة والجماعة ، أما أهل السنة فإنهم يقولون : المعصية تنقص الإيمان ولكن لا يكون صاحبها كافراً ولا خالداً في النار بل هو عاصٍ ومعصيته تنقص إيمانه وتضعف إيمانه وتسبب غضب الله عليه وهو على خطر منها بأن يدخل النار ولكن لا يكون كافراً، وحتى لو دخل النار لا يُخلَّد فيها.

فالحاصل أن هجره لأمه معصية وكبيرة بل وعقوق ولكن لا يكون ذلك من أسباب كفره ولا بطلان عمله إلا إذا استحل ذلك ورأى أن عقوق والديه حلال فهذا يكون كافراً نعوذ بالله من استحلال عقوق الوالدين ، فإن من عمل ذلك ورأى أنه حلال أو استحل الربا ورأى أنه حلال أو استحل الزنا ورأى أنه حلال هذا يكون كافراً مرتداً عن الإسلام ، إلا أن يكون مشركاً وجاهلاً لبعده عن الإسلام كالذي نشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام يجب أن يُعلَّم أمور الإسلام ويُبيَّن له أن عقوق الوالدين مما حرمه الله على عباده ، فالبر بالوالدين مما أوجبه الله على كل مسلم وإن عقوقها مما حرمه الله ، فإذا علم الجاهل وبُيِّن الأمر لمن دخل في الإسلام ثم أصر يكون كافراً نعوذ بالله وإذا كان طالب علم فكبيرته أشد نعوذ بالله من ذلك .
كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم لا يقرءون ولا يكتبون ، ولهذا سموا أميين وكان الذين يكتبون ويقرءون منهم قليلين جداً بالنسبة إلى غيرهم وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب كما قال الله سبحانه "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ " العنكبوت 48 ، وكان ذلك من دلائل صدق رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام ، لأنه أتى إلى الناس بكتاب عظيم أعجز به العرب والعجم ، أوحاه الله إليه ونزل به عليه الروح الأمين جبرائيل عليه الصلاة والسلام وأوحى إليه سبحانه السُّنَّة المطهرة وعلوماً كثيرة من علوم الأولين ، وأخبره سبحانه بأشياء كثيرة مما كان في غابر الزمان ومما يكون في آخر الزمان ومما يكون في يوم القيامة ، كما أخبره بأحوال الجنة والنار وأهلهما وكان ذلك مما فضَّله الله به على غيره وأرشد به الناس إلى منزلته العالية مع وصفه بالأمية ، لأن ذلك من أوضح الأدلة على نبوته ورسالته ، أما وصف الأمة بالأمية فليس المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها وإنما المقصود الإخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وقد دلَّ الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله سبحانه " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ " الزمر 9 ، وقال سبحانه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ " المجادلة 11 ، وقال سبحانه " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ " فاطر 28 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة " رواه الإمام مسلم في صحيحه ، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين " متفق على صحته والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

وبالله التوفيق

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه

29 - 3 - 1443هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 140 الجزء الرابع ‌‌أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة. - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 139 الجزء الرابع  الحاجة للقضاء الشرعي - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 138 الجزء الرابع  أخلاق المؤمنين والمؤمنات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 137 الجزء الرابع هذا هو طريق الرسل وأتباعهم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 136 الجزء الرابع توضيح معنى الشرك بالله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 135 الجزء الرابع  بيان معنى كلمة لا إله إلا الله (3) - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر