الحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله ، وبعدُ ،
العاريَّةُ هي: إباحة نفع عين بعد استيفائه ، هكذا قال المصنف ، رحمه الله ،
وسُمّيتْ بذلك ؛ لأنها عاريَّةٌ عن العوض ؛ ولهذا قال المؤلفُ : "وهي نفع عين تبقى بعد استيفائه " ، فالعاريَّةُ في الأصل بذلُ الشيءِ بلا عوضٍ على غيرِ وجهِ التمليكِ ، وتبقى بعد استيفاء المنفعة ليردها إلى مالكها وجوباً ، فخرج بهذا التعريف مالا يباح الانتفاع به فلا تحل إعارتُه ، مثل أشرطة الأغاني ، وخرج به أيضا مالا يمكن الانتفاع به إلا مع تلف عينه ، كالأطعمة والأشربة .
والعارية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع ، قال تعالى :" وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ " (الماعون7) ، أي المتاع يتعاطاه الناس بينهم ، فذمَّ الذين يمنعونه عمن يحتاج إلى استعارته فقد " كان فَزَعٌ بالمدينة فَاسْتَعَارَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَرَسًا مِن أبِي طَلْحَةَ يُقَالُ له المَنْدُوبُ ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ قالَ: ما رَأَيْنَا مِن شيءٍ، وإنْ وجَدْنَاهُ لَبَحْرًا." متفق عليه ، واستعار صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية ، فقد رَوَى " أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استعار منه أدراعًا يومَ حُنَيْنٍ، فقال: أغَصْبٌ يا مُحمَّدُ؟ فقال: لا، بل عاريَّةٌ مَضمونةٌ." ، رواه أبو داود وصححه الألباني وبذلُ العارية للمحتاج إليها قربةٌ ينال بها المعير ثواباً جزيلاً ؛ لأنها تدخل في عموم التعاون على البر والتقوى .
ويشترط لصحة الإعارة أربعةُ شروط:
الأول : أهلية المعير للتبرع ، لأن الإعارة فيها نوع من التبرع ، فلا تصح من صغير ولا مجنون ولا سفيه.
الثاني : أهلية المستعير للتبرع له ، بأن يصح منه القبول .
الثالث : كون نفعِ العين المعارة مباحاً ، فلا تحل إعارة عبد مسلم لكافر إذا كان في ذلك إهانةٌ له ، ولا صيدٍ ونحوه لمحرم ؛ لقوله تعالى :" ولَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " (المائدة 2) .
الرابع : كون العين المعارة مما يمكن الانتفاع بها مع بقائها على حالها السابقة.
قول المصنف :" وهي إباحة من المعير للمستعيرنفع عين تبقى " أي : العين ، " بعد استيفائه " ، أي : استيفاء النفع ، فقوله :" نفع عين تبقى بعد استيفائه " أي : تبقى العين بعد استيفائه ، فإنْ أعاره مالا يبقى بعد استيفائه ، فليست عارية ولكنها منحة كالأطعمة والأشربة ، ومثال العين التي تبقى بعد استيفائه : الكتابُ تعيرُه ليقرأ فيه ثم يعيده لك بعد قراءته ، أو السيارةُ ، أو جهازُ تسجيلٍ ، أو عباءة ٌ، أو فأسٌ ، أو عجلةُ سيارةِ وغيرُها .
قوله :" إباحة نفع عين " أي : جائز التبرع ؛ لأنه يملك المال ، أما إذا كان وليَّاً على مال يتيم فلا يصح أن يعيرَه ؛ لأن الإعارة تبرع بالنفع ، وهذا لا يملكه الوليّ ، فلا يجوز للوليّ أن يتبرع أو يقرض أو يعير من مال اليتيم إلا إذا كان فيه مصلحة لليتيم مثل الأضحية.
قوله :" وتباح إعارة كل ذي نفع مباح " ، العارية للمستعير جائزة مع المحافظة عليها ، وإذا كان النفع محرما لم تجز إعارتها ، كالطبول والمعازف ؛ لقوله تعالى :" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة 2) ،
ويجب المحافظة على العارية لقوله تعالى :" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا " (النساء 58) ، وقوله صلى الله عليه وسلم :" أدِّ الأمانةَ إلى منِ ائتمنكَ "رواه أبو داود وصححه الألباني .
قوله :" إلا البضع وعبداً مسلماً لكافر " ، البضعُ لا تحل إعارته ، شخصٌ عنده أمةٌ فجاءه آخر فقال : أعرني بضع أمتك لمدة كذا ، فلا يجوز لقوله تعالى :" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة 2) ؛ لأن بضع الأمة لا يصح استحلاله إلا لزوجها أو سيدها ، لقوله تعالى :" وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ" ( المؤمنون 5،6،7 ) .
قوله :" وعبدا مسلماً لكافر " فلا يجوز أن يعير عبداً مسلماً لكافر ؛ لأن في ذلك إهانةً للمسلم ، وإهانةُ المسلم إهانةٌ لدينة . ، والصوابُ : الجواز إذا لم يستخدمه الاستخدام المباشر ، فإذا انتفت الإهانة فلا حرج ، فالعلة يتبعها الحكم ، فيثبت بثبوتها وينتفي بانتفائها ، فإذا وضع في مكتب مؤقتاً او حارساً على مكتب فلا حرج لعدم الإهانة .
قوله :" وصيداً ونحْوَهُ لمُحْرِم" أي لا يجوز أن يعير صيداً لمحرم ، مثاله : عبدُ الله عنده غزالُ صيد أي قد صادها فطلب منه زيد وهو محرم أن يعيرها له مؤقتا ليراها ضيفٌ سينزل عنده فلا يجوز .
قوله :" وأمة شابة لغير امراة أو مَحْرَم " الأمةُ الشابةُ لا تجوزُ إعارتُها لرجلٍ إلا أن يكون مَحْرَماً ، فلو كان شخصٌ عنده أمةٌ شابةٌ مملوكةٌ ولها خالٌ ، فقال خالُها : أعرْني ابنةَ أختي لتقومَ بتنظيف بيتي فلا باسَ ؛ لأنه مَحْرَمٌ ومأمونٌ عليها ، أو استعارتْها امرأةُ محتاجة لمساعدتها في إعداد وجبة أكل لضيوف حلوا بها فيجوز إعارتها لها .
والخلاصة : أنه لا يجوز إعارة أمة لرجل غيِر محرمٍ ولو كانت عجوزاً لشيخ كبير.
قوله : " ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط" مثال ذلك : شخصٌ له جارٌ والجارُ له جدارٌ خاصٌ به واحتاج ذلك الشخصُ أن ينتفع بجدار جاره فطلب منه أن يضع خشباً على الجدار عاريةً ، فأعاره إياه ووضع عليه خشبه وبعد ذلك طلب صاحب الجدار من الجار أجرة على وضع الخشب ، وقال : رجعت في إعارتي ، فلا يملك ذلك ولا يقبل منه رجوعه عن العارية ؛ لأن الرجوع في العارية على وجه يتضرر به المستعير لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا ضرر ولا ضرار " رواه أحمد وحسنه الألباني .
قوله :" حتى يسقط " متعلقة بقوله :" لا أجرة " ، فإذا سقط الجدار ثم أقامه فله أن يمنع جاره من الانتفاع به إلا بأجرة . وكذلك إذا رفع الجار خشبه ثم أراد إعادته مرة ثانية فله طلب الأجرة .
وهذا الكلام من المؤلف مقيد بما إذا لم يجب تمكين الجار من وضع الخشب على الجدار وإلا فلا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ في جِدَارِهِ. ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ: ما لي أرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! واللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بهَا بيْنَ أكْتَافِكُمْ " أخرجه البخاري .
قوله :" ولا يرُدُّ إنْ سقطَ إلا بإذنه" بمعنى إذا سقط الحائط فإنه لا يردُّ الخشب إلا بإذن صاحب الجدار ، فإذا انهدم الجدار ثم جدده مالكُه فإنه لا يمكن أن تردَّ ما كنت مستعيراً له من قبل وهو الخشب إلا بإذنه ، فأنت استعرت منه الجدار لتضع عليه خشبك ، فلما سقط الجدار انتهت الإعارة ، وعليك أن تجدد الإعارة إن أذن لك بذلك .
قوله :" وتضمن العارية بقيمتها " يعني إذا كانت متقومةً وبمثلها إذا كانت مثلية ، والمثلي ما كان له مماثل أومقارب مقاربةً تامةً ، فإذا استعار إناءً ثم انكسرَ الإناءُ فيضمنُ بإناءٍ مثلِه.
قوله :" يوم تلفت" أي وقت التلف.
قوله:"ولو شرط نفي ضمانها " يعني المستعير يضمن العارية ولو شرط على صاحبها أن لا يضمنها ؛ لأن هذا الشرط لاغٍ ؛ لأنه ينافي مقتضى العقد ، إِذْ مقتضى العقد الضمانُ مطلقاً.
قوله :" وعليه مؤنة ردّها" تكلفة ردّها على صاحبها ، مثل أن يكون المستعارُ مجموعةً كبيرةً من الأواني وتحتاج إلى رفْقٍ وتأني حتى لا تنكسرَ ، فالتكلفةُ على المستعير.
وبالله التوفيق
1442/3/29 هـ