الدرس 117: الجهاد 5: باب عقد الذمة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 29 ربيع الأول 1438هـ | عدد الزيارات: 1459 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

قبل الحديث عن درس اليوم أود أن أشير إلى مسألة تتعلق بدرس الأمس وهي عن رهائن الكفار إذ يجوز قتل رهائنهم إن قتلوا رهائننا إذا كان بيننا وبينهم رهائن، وإذا خفنا أن ينقضوا العهد ويقتلوا رهائننا فإننا نطلب منهم رهائننا ونعطيهم رهائنهم أو بعضها ونقول لمن قال (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الإسراء: 15، حين نقتل رهائنهم بقتلهم رهائننا، إن القوم طائفة واحدة فجناية واحد منهم جناية من الجميع، فيجوز أن نعطي الكفار رهائنهم بشرط أن يعطونا رهائننا

أعود إلى درس اليوم باب عقد الذمة

الذمة لغة: العهد، لقوله تعالى (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) التوبة: 10، والإل بمعنى القرابة والذمة بمعنى العهد؛ والأصل أن الإنسان يحتمي بالقرابة أو العهد، قال تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) الإسراء: 34، وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه (إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله) فالذمة معناها العهد

ومعنى عقد الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة

والأصل عدم إقرار الكفار على كفرهم، لقوله صلى الله عليه وسلم (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله......) رواه البخاري ومسلم، ووجه هذا الأصل الذي دل عليه القرآن كما دلَّت عليه السنة، أن الخلق عباد لله يجب عليهم أن يقوموا بمقتضى هذه العبودية من التذلل له والتزام أحكام شريعته، فإذا خالفوا ذلك خرجوا عن مقتضى هذه العبودية، فكان يجب أن يُردُوا إليها؛ لأنهم خلقوا من أجلها، ولكن لنا أن نقرهم على دينهم بالذمة والعهد وهو الهدنة

والذمة إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة، أي ما حكمت به الشريعة الإسلامية عليهم

والعهد هو الهدنة، فنعاهد الكفار، وهم في أرضهم مستقلون عن المسلمين ليس لنا من شأنهم شيء إلا وضع القتال

والأصل في هذا قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة: 29

قول المؤلف (لا يصح عقد الذمة لغير المجوس) المجوس هم الذين يعبدون النار وهم مشركون، لكنهم طائفة مستقلة عن الشرك العام بخصائص معروفة في دينهم، يقولون بالأصلين الظلمة والنور وهم فرق وهذه من فرقهم ويقولون: إن الحوادث إما خير وإما شر، فالخير خلقه النور، والشر خلقته الظلمة، ومع هذا لا يرون أن هذين الإلهين متساويان بل يقولون: إن النور خير من الظلمة، والنور قديم، ويختلفون في الظلمة هل هي حادثة أو لا؟ ولهذا قال شيخ الإسلام: لم يُعلم أن أحداً من أرباب المقالات قال: إن للخلق إلهين متساويين أبداً، فهؤلاء يعقد لهم عقد الذمة

ودليل ذلك أنه ثبت في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وهجر هي الأحساء وما حولها وكان فيها مجوس؛ لأنها بجانب أرض الفرس، ومعلوم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ الجزية فهي شريعة

قول المؤلف (وأهل الكتابين) الكتابان هما التوراة والإنجيل، أنزل الله التوراة على موسى عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام والمتمسكون بالتوراة يقال لهم: اليهود، والمتمسكون بالإنجيل يقال لهم: النصارى، ومن الخطأ أن يطلق على النصارى اليوم بالمسيحيين

فهؤلاء يعقد لهم بنص القرآن الكريم عقد الذمة بشرط دفع الجزية مع التزامهم بأحكام الشريعة التي حكمتها عليهم، قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة: 29

بمعنى أن الواحد منهم يأتي بها ويسلمها بيده، إذا لا تعقد عقد الذمة إلا للمجوس واليهود والنصارى، ومن سواهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، فلا نقبل الجزية من غير المجوس واليهود والنصارى فقط، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله......) إلى آخر الحديث، لكن الصحيح أنها تصح من كل كافر والدليل على جواز أخذ الجزية من غير الثلاثة الآنف ذكرهم حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم أوصاه بوصايا، منها أنه إذا لم يُسلم القوم فيدعوهم إلى أخذ الجزية فإن أبوا قاتلهم) وهذا دليل على العموم لا حصرها في المجوس وأهل الكتاب وكونه أخذها من مجوس هجر مع أنهم ليسوا من أهل الكتاب فيدل على أنها تؤخذ من كل كافر، لأن المقصود إقرار الكافر على دينه على وجه معين وهو دفع الجزية والتزامه بما حكم عليه شرعنا

قوله (ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه) أي لا يصح عقد الذمة بين المسلمين والكفار إلا إمام أو نائبه وهو صاحب السلطة العليا في الدولة، أو نائبه من الوزراء أو الأمراء أو من يوليهم الإمام مثل هذا العقد، لأنه عقد يترتب عليه أحكام كبيرة، وليس كالأمان، فالأمان يصح من كل إنسان مسلم، ذكراً كان أم أنثى، قال صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) أخرجه البخاري ومسلم

أما عقد الذمة، فهو عقد مؤبد، ليس فيه تقييد بسنة أو عشر سنين أو أكثر، بخلاف الهدنة فإنها تكون مطلقة، ولا تصح مؤبدة؛ فيتضمن إلغاء الجهاد، وهذا لا يجوز؛ لأن الجهاد فرض كفاية فلا بد منه، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود: الجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر أمتي الدجال

قوله (لا جزية على صبي ولا امرأة) فقوله (لا جزية) وهي مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلاً عن قتالهم وإقامتهم بدارنا، (علي صبي) أي لا جزية على صبي؛ لأنه ليس أهلاً للقتال، والجزية تكون على من يقاتل، وكذلك لا جزية على امرأة؛ لأنها ليست من أهل القتال، ولا يجب عليها الجهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة رضي الله عنها: هل على النساء جهاد، قال (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) أخرجه أحمد، وكذلك لا جزية على عبد؛ لأنه لا يملك، فهو بمنزلة الفقير

وقوله (ولا فقير يعجز عنها) لأن الفقير ليس له مال، وكذا لا تجب على مجنون أو أعمى أو شيخ فان

ومن صار أهلاً لها، أي الجزية أخذت منه في آخر الحول كصبي بلغ وعبد عتق وفقير اغتنى

قوله (ومتى بذلوا الواجب عليهم وجب قبوله وحرم قتالهم) لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة: 1، فكل عقد بينك وبين غيرك فإنه يجب عليك الوفاء به إذا كان قد أذن به الشرع، لأن الله تعالى لا يأمر بوفاء ما لم يأذن به، فيجب علينا أن نقبله، وإذا بذلوا الجزية حرم قتالهم

وإذا أسلم أحد في أثناء الحول فإنها تسقط عنه؛ لأنه أسلم فلم يكن من أهل الجزية، فلا يؤخذ منه شيء ترغيباً له في الإسلام

قال (ويمتهنون عند أخذها) أي: لا يكرم الذي جاء بالجزية إلى الجابي فإنه لا يستقبله بالحفاوة والإكرام، ويقدم له الأكل والشراب بل يمتهنه؛ لقوله تعالى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة: 29

والإكرام ضد الصغار

ولا يجوز للواحد منهم أن يرسل الجزية مع خادمه أو ابنه لقوله تعالى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) يسلمها بيده

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1438-3-29

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة