الدرس 264: الاجتهاد

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 7 ربيع الثاني 1437هـ | عدد الزيارات: 1829 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

باب الاجتهاد لم يغلق بل هو مفتوح لأهل العلم والإيمان والبصيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام من سلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان من أهل العلم والإيمان، أما من ليس كذلك فالواجب عليه سؤال أهل الذكر كما نص على ذلك أهل العلم.

أما من أخطأ في الاجتهاد إذا كانت المسألة التي أخطأ فيها من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء ولم يكن خطؤه عن هوى ولم يخرج فيها عن قول المختلفين من العلماء فلا إثم عليه ولا حرج، ولا تلزمه توبة من ذلك، وإنما يلزمه اتباع ما ظهر من الحق إذا كان من أهل العلم، وإلا فالواجب عليه سؤال أهل العلم قبل أن يقدم على شيء لا يعلم حكم الله فيه لقول الله سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل43]

وسبب الاختلاف بين أئمة الفقه الاختلاف في فهم الحديث وقد يكون لعدم بلوغ الحديث لبعضهم وقد يكون لاختلافهم في الترجيح عند تعارض الأدلة وقد يكون لاختلافهم في نسخ النص وقد يكون لغير ذلك وإذا أردت التوسع فاقرأ كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله

الخلاف بين الأئمة الأربعة مبني على اختلافهم في العلم والفهم والمصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد وخطؤه معفو عنه وهكذا غيرهم من علماء الإسلام كالأوزاعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأمثالهم

ووقوع خلاف في المسائل الفقهية ليس غريبا فإن من سنة الله في الناس أنه جعلهم مختلفين في مداركهم وعقولهم وفي اطلاعهم على الأدلة السمعية وإدراكهم لأسرار الكون وما أودعه الله فيه من سننه فلا عجب أن يختلفوا في مسائل العلوم الشرعية والكونية عقلا وسمعا، بل ذلك هو مقتضى الحكمة واختلاف الخلق والمواهب فلا يستنكر ذلك لكن المنكر أن يتكلم الإنسان بجهل أو اتباعا للهوى أو بعصبية لرأي من تقلد مذهبه

أما من نظر في الأدلة الكونية والسمعية الاجتهادية بإنصاف مبتغيا الحق فهو محمود أصاب أم أخطأ فإن أصاب فله أجران أجر عن اجتهاده وآخر عن إصابته الحق وإن أخطأ فهو معذور وله أجر واحد عن اجتهاده كما دلت على ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

فأسباب اختلاف الفقهاء (الأئمة الأربعة) وغيرهم كثيرة وقد ألف فيها كتب منها (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لابن تيمية ، و (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) لعبد الرحيم الأسنوي ، و (الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف) لولي الله الدهلوي ، و (أسباب اختلاف الفقهاء) لعلي الخفيف ، و (الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الخلاف) لعبد الله بن سيد ، و (بداية المجتهد) لابن رشد فإنه يذكر في المسائل محل الوفاق ثم يذكر محل الخلاف ويبين منشأه

ومع ذلك نذكر بعض هذه الأسباب

أولاً: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر كالقرؤ في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [228] ، فالقرؤ تطلق على المحيض وعلى الأطهار فذهب بعضهم إلى أن المطلقة تعتد بالأطهار وذهب آخرون إلى أنها تعتد بالحيض، وكل له أدلة تعين المعنى الذي اختاره

ثانياً: تعارض الأدلة فيختلف نظر الفقهاء في الترجيح أو الجمع بينها مثل حديث النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وحديث نهي من دخل المسجد عن الجلوس حتى يصلي ركعتين تحية للمسجد فاختلف الفقهاء في تطبيق ذلك على من دخل المسجد في وقت نهي عن الصلاة فيه، فمنهم من قدم أحاديث النهي عن الصلاة ومنهم من قدم حديث تحية المسجد ولكل أدلة في ترجيح ما اختاره

ومنها أن يبلغ الحديث أحدهم دون الآخر ومنها الاختلاف في النسخ

فالخلاف الموجود في الفروع الفقهية بين أئمة المذاهب الأربعة يرجع إلى الأسباب التي نشأ عنها ككون الحديث يصح عند بعضهم دون بعض أو بلوغ الحديث لواحد دون الآخر إلى غير ذلك من أسباب الخلاف، فيجب على المسلم أن يحسن الظن بهم فكل واحد منهم مجتهد فيما صدر منه من الفقه طالب للحق فإن كان مصيبا فله أجران أجر اجتهاده وأجر إصابته وإن كان مخطئا فله أجر اجتهاده وخطؤه معفو عنه

وأما التقليد لهؤلاء الأئمة الأربعة فمن تمكن أن يأخذ الحق بدليله وجب عليه الأخذ بالدليل وإن لم يتمكن فإنه يقلد أوثق أهل العلم عنده حسب إمكانه وهذا الاختلاف في الفروع لا يترتب عليه منع المختلفين أن يصلي بعضهم خلف بعض بل الواجب هو أن يصلي بعضهم خلف بعض، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في المسائل الفرعية ويصلي بعضهم خلف بعض، وهكذا التابعون وأتباعهم بإحسان

مالك رحمه الله إمام من الأئمة في العلم وهو بشر يخطئ ويصيب ويؤخذ من قوله ويرد فما وافق الحق من قوله قبل وما لم يوافق الحق ترك والشخص إذا كان يستطيع أخذ الأحكام من القرآن والسنة فلا يجوز له أن يقلد أحدا وإذا كان لا يستطيع وأشكل عليه شيء من أمور دينه فإنه يسأل أوثق أهل العلم عنده ويعمل بإجابته

والمذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد ، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا

ولا يجوز للمسلم أن يقلد مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية ولا أشباههم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم، وأما انتسابه إلى بعض المذاهب الأربعة المشهورة فلا حرج فيه إذا لم يتعصب للمذهب الذي انتسب إليه ولم يخالف الدليل من أجله

يختلف الناس في استعدادهم وتفكيرهم ومعلوماتهم فمنهم الذكي والغبي ومنهم العالم والأمي واتقوا الله ما استطعتم

وسبب التمسك بالأقوال والمذاهب الأربعة هو أنها تعتمد في الأصل على مصادر التشريع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغير ذلك من الأدلة

والأصل أن الواجب على المسلم أن يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويستعين بكلام أهل العلم سواء انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة أم لم ينتسب ولا يلزمه الانتساب إلى شيء منها، هذا إذا كان يستطيع استنباط الأحكام بنفسه أو الاستعانة ببعض أئمة الفقه الإسلامي لتوافر أسبابها لديه وانتفاء الموانع عنده فإنه يأخذ الحكم بنفسه وإذا كان لا يستطيع فإنه يقلد أوثق من يتحصل عليه من أهل العلم

وأما المذاهب الأربعة فكل واحد منها منسوب إلى الإمام الذي سمي المذهب باسمه وهذا الإمام اشتهر بالاجتهاد في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة فتبعه أناس من أهل العلم على مذهبه ولا يجوز التعصب لشيء منها بغير حجة بل الواجب هو الأخذ بما تقتضيه الأدلة الشرعية مع غض النظر عن كونه يوافق المذهب الفلاني أو غيره

وكل مسلم يسمى حنيفيا لاتباعه الحنيفية السمحة التي هي ملة إبراهيم وملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة جميع المرسلين سواء كان حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا أو تابعا أو مقلدا لغيرهم من علماء الإسلام

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/4/7 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 140 الجزء الرابع ‌‌أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة. - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 139 الجزء الرابع  الحاجة للقضاء الشرعي - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 138 الجزء الرابع  أخلاق المؤمنين والمؤمنات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 137 الجزء الرابع هذا هو طريق الرسل وأتباعهم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 136 الجزء الرابع توضيح معنى الشرك بالله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 135 الجزء الرابع  بيان معنى كلمة لا إله إلا الله (3) - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة
الدرس السابق
الدروس الكتابية المتشابهة الدرس التالي