الدرس 175: التبني

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 7 ربيع الأول 1435هـ | عدد الزيارات: 2313 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

التبني معروفا أيام الجاهلية قبل رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكان من تبنى غير ولده ينسب إليه ويرثه ويخلو بزوجته وبناته

ويحرم على المتبني زوجة متبناه وبالجملة كان شأن الولد المتبنى شأن الولد الحقيقي في جميع الأمور وقد تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي قبل الرسالة فكان يدعى زيد بن محمد واستمر العمل بالتبني على ما كان عليه زمن الجاهلية إلى السنة الثالثة أو الخامسة من الهجرة

ثم أمر الله بنسبة الأولاد المتبنين إلى آبائهم الذين تولدوا من أصلابهم إن كانوا معروفين فإن لم يعرف آباؤهم الذين هم من أصلابهم فهم أخوة في الدين وموال لمن تبناهم ولغيرهم وحرم سبحانه أن ينسب الولد إلى من تبناه نسبة حقيقية بل حرم على الولد نفسه أن ينتسب إلى غير أبيه الحقيقي إلا إذا سبق هذا إلى اللسان خطأ فلا حرج فيه

وبين سبحانه أن هذا الحكم هو محض العدالة لما فيه من الصدق في القول وحفظ الأنساب والأعراض وحفظ الحقوق المالية لمن هو أولى بها قال تعالى "وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" (الأحزاب 4، 5) ، وقال صلى الله عليه وسلم "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام" رواه البخاري ومسلم

وقال صلى الله عليه وسلم "من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة" رواه أبو داود

وبقضائه سبحانه على التبني أي البنوة الادعائية التي لا حقيقة لها قضى على ما كان له من أحكام زمن الجاهلية واستمرت في صدر الإسلام فقضى على التوارث بين المتبني ومتبناه بهذه البنوة التي لا حقيقة لها

وجعل لكل منهما أن يبر الآخر في حياته بالمعروف وأن يبره بوصية يستحقها بعد وفاة الموصي على ألا تتجاوز ثلث مال الموصي وبينت الشريعة أحكام المواريث ومستحقيها تفصيلا وليس المتبني ولا متبناه من بين المستحقين للإرث في هذه التفاصيل

وبين تعالى إجمالا أيضا المواريث والبر والمعروف فقال تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا

وأباح الله للمتبني أن يتزوج زوجة متبناه بعد فراقه إياها وقد كان محرما في زمن الجاهلية وبدأ في ذلك برسوله صلى الله عليه وسلم ليكون أقوى في الحل وأشد في القضاء على عادة أهل الجاهلية في تحريم ذلك قال تعالى "فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا" (الأحزاب 37) فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بأمر الله بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة

تبين مما تقدم أن القضاء على التبني ليس معناه القضاء على المعاني الإنسانية والحقوق الإسلامية من الإخاء والوداد والصلات والإحسان وكل ما يتصل بمعاني الأمور ويوحي بفعل المعروف

فللإنسان أن ينادي من هو أصغر منه سنا بقوله يا بني على سبيل التلطف معه والعطف عليه وإشعاره بالحنان ليأنس به ويسمع نصيحته أو يقضي له حاجته وله أن يدعو من هو أكبر منه سنا بقوله يا أبي تكريما له واستعطافا لينال بره ونصحه وليكون عونا له وليسود الأدب في المجتمع وتقوى الروابط بين أفراده وليحس الجميع بالأخوة الصادقة في الإنسانية والدين

لقد حثت الشريعة على التعاون على البر والتقوى وندبت الناس جميعا إلى الوداد والإحسان قال تعالى "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"(المائدة 2) وقال صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" رواه مسلم وقال "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" رواه البخاري ومسلم

ومن ذلك تولي اليتامى والمساكين والعجزة عن الكسب ومن لا يعرف لهم آباء بالقيام عليهم وتربيتهم والإحسان إليهم حتى لا يكون في المجتمع بائس ولا مهمل خشية أن تصاب الأمة بغائلة سوء تربيته أو تمرده لما أحس به من قسوة المجتمع عليه وإهماله وعلى الحكومات الإسلامية إنشاء دور للعجزة واليتامى واللقطاء ومن لا عائل له ومن في حكمهم فإن لم يف بيت المال بحاجة أولئك استعانت بالموسرين من الأمة قال صلى الله عليه وسلم "أيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه" رواه البخاري

وهذا رداً على سائل ما قمت به من تبني الطفل الذي أشرت إليه وتسجيله في حفيظتك على أنه ابنك وتثبيت ذلك بصك لكي يرثك على أنه ابن لك خطأ محض وتجاوز على حدود الله وكذب على المسئولين في الدولة بإفادتهم بخلاف الواقع فالتبني لا يجوز في الإسلام لقوله سبحانه وتعالى "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم* وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" الآية 4-5 سورة الأحزاب

والمعنى: أن الله تعالى لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم أو يدعون إليكم أبناءكم فإن أبناءكم في الحقيقة من ولدتموهم وكانوا منكم وما تقولونه في الدعي إنه ابن فلان الذي ادعاه وتبناه أو والده فلان هو قولكم بأفواهكم أي قول لا حقيقة له والله يقول الحق أي اليقين والصدق فلذلك أمركم باتباعه على قوله وشرعه ثم أمر الله تعالى أن يدعى هؤلاء المتبنون لآبائهم الذين ولدوهم وهذا أقسط عند الله أي أعدل وأقوم وأهدى فإن لم يعلم آباؤهم الحقيقيون فيدعون بالأخوة الإيمانية

كما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل مسلم ومسلمة أن ينسب إنسانا له أو إلى غيره وهو ليس كذلك أو يدعي نسبه إلى شخص أو قبيلة وهو كاذب ويدل لذلك ما رواه أبو ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار" متفق عليه وفي رواية: إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه

فالواجب أن ينسب كل شخص إلى أبيه فإن لم يكن له أب معروف وكان له ولاء نسب إليه فإن لم يكن له ولاء دعي باسم الأخوة في الدين فيقال له يا أخي أو يا أختي لقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " ( الأحزاب 5)

وتغيير الإنسان اسم أبيه لمصلحة دنيوية لا يجوز لأن ما ظنه مصلحة إما أن يكون لكسب وجاهة بمن انتسب إليه وترفعا عن الانتساب لأبيه وذلك كبيرة من الكبائر لما فيه من الكذب والزور واحتقار أبيه وازدرائه بالإعراض عن الانتساب إليه وإما أن يكون كسب مال من إرث أو حكومة أو غير ذلك وهو كبيرة من الكبائر أيضا لما فيه من الكذب والخداع والتغرير بالنسب

كما لا يجوز نسبة المرأة إلى زوجها كما جرت العادة عند الكفار ومن تشبه بهم من المسلمين

كما لا يجوز أن يدعي مسلم أن فلانا ابنه والواقع غير ذلك

ولا يجوز شرعاً إضافة اللقيط إلى من يتبناه إضافة نسب

والصحيح من أقوال العلماء: أن الولد لا يثبت نسبه للواطئ إلا إذا كان الوطء مستندا إلى نكاح صحيح أو فاسد أو نكاح شبهة أو ملك يمين أو شبهة ملك يمين فيثبت نسبه إلى الواطئ ويتوارثان أما إن كان الوطء زنا فلا يلحق الولد بالزاني ولا يثبت نسبه إليه وعلى ذلك لا يرثه إذ لا يثبت بالزنا نسب للزاني لقوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ويجوز للزاني أن يتزوج من الزانية بعد قضاء العدة والتوبة النصوح

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وحفظ الأمة من الزنا والفساد

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين

1435-3-7 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة