الدرس السابع والأربعون: الهجرة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 19 ذو القعدة 1434هـ | عدد الزيارات: 1915 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

الهجرة هي الخروج من بلد الكفر إلى بلد الإسلام وهي واجبة ، قال تعالى " إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ " النساء 97 ، إلى قوله " فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَاهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا " النساء 97 ، قال ابن كثير على هذه الآية : هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع أ. هـ
أما قوله صلى الله عليه وسلم : " العبادة في الهرج كهجرة إليّ " فهو يدل على فضل العبادة لله وحده في أوقات الفتن والقتال وأنها في الفضل كهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان المسلمون يهاجرون إليه في المدينة من بلاد الكفر مكة قبل الفتح .

حديث : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " حديث صحيح جاء في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " ، قال الحافظ في الفتح على قوله صلى الله عليه وسلم " ولكن جهاد ونية " قال الطيبي وغيره : هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله ، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك . انتهى

والخير له الخروج من أي بلد إذا كان خروجه منها أصلح لدينه سواء سُمي هجرة أم لم يسم .

إذا كان المسلم لا يستطيع أن يأمن على نفسه وعلى دينه من الفتن في بلده شُرع له الهجرة منها إذا استطاع إلى بلد يأمن فيها على نفسه ودينه .

كل بلاد أو ديار يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله ويحكمون رعيتها بشريعة الإسلام وتستطيع فيها الرعية أن تقوم بما أوجبته الشريعة الإسلامية عليها فهي دار إسلام فعلى المسلمين فيها أن يطيعوا حكامها في المعروف وأن ينصحوا لهم وأن يكونوا عوناً لهم على إقامة شؤون الدولة ودعمها بما أوتوا من قوة علمية وعملية ولهم أن يعيشوا فيها وألا يتحولوا عنها إلا إلى ولاية إسلامية تكون حالتهم فيها أحسن وأفضل وذلك كالمدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها وإقامة الدولة الإسلامية فيها وكمكة بعد الفتح فإنها صارت بالفتح وتولي المسلمين أمرها دار إسلام بعد أن كانت دار حرب تجب الهجرة منها على من فيها من المسلمين القادرين عليها .

وكل بلاد أو ديار لا يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام فهي دار كفر ، وكذا البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام ويحكم ذوو السلطان بغير ما أنزل الله ولا يقوى المسلمون فيها على إقامة شعائر دينهم فيجب عليهم أن يهاجروا منها فراراً بدينهم من الفتن إلى ديار يحكم فيها بالإسلام ويستطيعون أن يقوموا فيها بما وجب عليهم شرعاً ، ومن عجز عن الهجرة منها من الرجال والنساء والولدان فهو معذور ، وعلى المسلمين في الديار الأخرى أن ينقذوه من ديار الكفر إلى بلاد الإسلام ، قال الله تعالى " إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي ٱلأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَاهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا * إِلَّا ٱلمُستَضعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلوِلدَٰنِ لَا يَستَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعفُوَ عَنهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا " النساء 97 - 99 .

أما من قوي من أهلها على إقامة شعائر دينه فيها وتمكن من إقامة الحجة على الحكام وذوي السلطان وأن يصلح من أمرهم ويعدل من سيرتهم فيشرع له البقاء بين أظهرهم لما يرجى من إقامته بينهم من البلاغ والإصلاح مع سلامته من الفتن .

ولا تجوز الإقامة في بلد يحال فيه بين المسلم وإظهاره شعائر الإسلام وإعلانها فعلى من يستطيع الهجرة أن يهاجر منه إلى بلد يتمكن فيها من إقامة شعائر دين الإسلام وإعلانها ويتم له التعاون مع المسلمين على البر والتقوى ويكثر به سواد المسلمين وسوف لا يُعدم رزقاً كما قال تعالى " وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجاً * وَيَرۡزُقهُ مِنۡ حَيثُ لَا يَحتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا " الطلاق 2 ، 3 .

إذا أردت العمل وطلب الرزق فعليك بالسفر إلى بلاد المسلمين لأجل ذلك وفيها غنية عن بلاد الكفار لما في السفر إلى بلاد الكفر من الخطر على العقيدة والدين والأخلاق ، ولا يجوز التجنس بجنسية الكفار لما في ذلك من الخضوع لهم والدخول تحت حكمهم .

يجب على المسلم أن يبلغ ما لديه من العلم قلَّ ذلك أو كثر لمن لم يعلمه من دون تحديد بوقت أو قدر من العلم سوى الحاجة إلى بيان ما عنده ، وقد يتعين عليه إذا لم يوجد من يقوم بالبلاغ والبيان غيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وعملاً بما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بلغوا عني ولو آية " ، وما رواه أحمد والترمذي وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نضَّر الله امرءً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع " ، وحذراً مما توعَّد الله به كاتم العلم بقوله سبحانه " إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكتُمُونَ مَآ أَنزَلنَا مِنَ ٱلبَيِّنَٰتِ وَٱلهُدَىٰ مِنۢ بَعدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ * إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ " البقرة 159 ، 160 ، ويحرم عليه أن يقول ما لا يعلم أو يخوض فيما ليس له به علم لقوله تعالى " قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثمَ وَٱلبَغيَ بِغَيرِ ٱلحَقِّ وَأَن تُشرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلطَٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعلَمُونَ " الأعراف 33 ، وغير ذلك من النصوص التي في معنى ما تقدم حثاً على البلاغ وتحذيراً من القول في الإسلام بغير علم .

والعلوم الإسلامية أنواع : علم التوحيد بأقسامه توحيد الربوبية وتوحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات ، وعلم الفقه بأقسامه : قسم العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج ، وقسم المعاملات كالبيع والشراء والإجارة ، وقسم الأحوال الشخصية كالنكاح والوقف والمواريث وغيرها ، والجنايات والحدود ، وعلم الآداب والأخلاق .

والمدخل إلى تعلم هذه العلوم دراسة كتاب الله تعالى وتدبر معانيه ، ودراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه فيها لمعرفة صحيحها من ضعيفها وفهم معانيها واستنباط الأحكام ودراسة كتب الفقه التي ألفها العلماء الأخيار الذين درسوا الكتاب والسنة واستنبطوا منها الأحكام وهذه الكتب منها المختصر والمطول والسهل والصعب وكلٌ يقرأ منها ما يناسب استعداده الفكري ومقدار تحصيله للعلوم وما يحتاج إليه في حياته ، فالبادئ يقرأ في المختصر السهل منها مثل تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي وتفسير ابن كثير وسبل السلام للصنعاني وشرح بلوغ المرام لأحاديث الأحكام لابن حجر العسقلاني ، ومثل عمدة الفقه لابن قدامة وكتاب الكافي له وكلاهما في الفقه وكتاب الآداب الشرعية لابن مفلح وكتاب العقيدة الواسطية لابن تيمية وكتاب التوحيد وكتاب كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأما العالم أو المتعلم فيختار لنفسه ما ينفعه منها ويستشير في ذلك من يثق به من أهل العلم ، ومن ذلك تفسير ابن جرير الطبري وفتح الباري لابن حجر على صحيح البخاري وشرح النووي لصحيح مسلم وكتاب الأم للشافعي والمغني لابن قدامة وبداية المجتهد لابن رشد ونحو ذلك من الكتب ولابد من معلم لكل من يريد أن يتعلم .

طلب العلم الذي يتوقف عليه صحة إيمانك وأداء الفرائض لا يتوقف على إذن الوالدين ، وما كان من العلوم فرض كفاية فاستأذن فيه الوالدين .

دراسة العلوم التكنلوجية من فروض الكفاية فإذا درسها أبناء المسلمين للاستفادة منها فهم على أجر على حسب نياتهم .

تأتي المعرفة والعلم في الدرجة الأولى حيث تجب المعرفة والعلم قبل القول والعمل في الإسلام ولذا قال تعالى " فَٱعلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ " محمد 19 ، فذكر العلم قبل النطق والتلفظ بالشهادة ، وسبل المعرفة كثيرة : أولاً التزام تقوى الله تعالى بأن يفعل المأمورات ويترك المنهيات ، ثم تأتي مرتبة التعلم والدراسة والتلقي للعلوم من أهل الدين والمعرفة .

والتقليل من طلب العلم من مصادرها الكتاب والسنة وما فهم منهما وما يعين على فهمهما هو السبب في التأخر وهو الذي أدى بالناس إلى هذا الوضع ، ولا يعذر بالجهل من عنده القدرة على تعلم ما هو واجب عليه من ضروريات الدين ولم يتعلم .

والواجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه حتى يعرف ما أوجب الله عليه وما حرَّم فيما لا يسعه جهله ولو بالسفر من بلد إلى بلد إذا لم يجد في بلده من يعلمه لقول الله سبحانه " فَٱعلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱستَغفِرۡ لِذَنبِكَ " محمد 19 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه .

نص الحديث " طلب العلم فريضة على كل مسلم " ضعفه الأكثر وحسنه بعضهم ، ومعناه صحيح في الجملة لأن المسلم يجب عليه أن يتعلم من دينه ما لا يسعه جهله .

تعلم العلوم الإسلامية من غير المسلم لا يجوز لأن الشأن فيه أنه غير مأمون في ذلك فليس أهلاً لتلقيها منه ، أما تعلم العلوم الدنيوية فما كان منها نافعاً غير ضار فيتعلم المسلم بقدر حاجته وحاجة الأمة .

وبالله التوفيق

وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

17 - 11 - 1434هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر