الكلمة في الميزان

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 20 ربيع الأول 1435هـ | عدد الزيارات: 1904 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ " (غافر 19) ، أحمده وأشكره وأسأله أن يهدينا إلى الطيب من القول وإلى صراطه الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .

أما بعد

عباد الله: نعم الله على الإنسان كثيرة "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ "(النحل:18). ومن أكبر نعم الله على الإنسان نعمة الكلام والبيان, فبه فضَّله الله على كثير ممن خلق تفضيلا وبه يعبر عما في نفسه ولقد امتن الله على الإنسان بهذه النعمة العظيمة فقال سبحانه "الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) "الرحمن:1-4. وكما أن الكلمة نعمة فهي أيضا أمانة , من عرف لها قدرها صانها ,ومن جهل منزلتها أهانها , ومن هام بها في كل واد من القول كثر غلطه ,وذهبت أكثر كلماته لغوا ضائعا , وثرثرة لا فائدة فيها " لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء114)". والإسلام يكره الكلام وذلك تجنبا لعثرات اللسان فمن كثر كلامه كثر غلطه ، ومن كثر غلطه قسا قلبه، ومن قسا قلبه انقطعت صلته بالله والعياذ بالله.

والمؤمنون أبعد الناس من فضول القول , ولغو الكلام ,إذا تحدثوا أوجزوا في كلامهم , واقتصروا على حاجتهم "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ " القصص:55. "وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا " (الفرقان72) . يقول القرآن في صفتهم " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون" المؤمنون:1-3. وقال أيضاً "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" القصص:55.

والجنة دارٌ طهر الله ساحتها من اللغو والزور من القول "لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيما إلا قيلاً سلاماً سلاما"الواقعة:25-26. فمتى يدرك الإنسان أن اللسان إذا لم يكن زمامه في يد العقل والحكمة أصبح في يد الشيطان يصرفه كيف يشاء , وإن أكثر ما يدخل الناس في النار يوم القيامة ,فضول أقوالهم , وفلتات ألسنتهم , يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه قلت يا رسول الله "أكل ما نتكلم به يكتب علينا , قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إنك لن تزال سالما ما سكت فإذا تكلمت كتب لك أوعليك" رواه الترمذي وصححه الألباني.

وفي مجلس من مجالس الصحابة قام رجل فأكثر القول وأفاض فيه فقال عمرو بن العاص "لو قصد في قوله لكان خيراً له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير" رواه أبو داود وصححه الألباني.

ومن خلق المسلم التروي والتثبت مما يقول أو يسمع "يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"الحجرات:6. وضعاف الإيمان هم الذين يقولون كل ما يسمعون

والقرآن الكريم يضع الخطة المثلى لنقل الأخبار فيفرض على المسلم ألا يسمع كل ما يقال وحتى إذا سمعه لا يذيعه وإنما يرده إلى أهل الخبرة ليكشفوا وجه الحق فيه وليميزوا صدقه من كذبه يقول تعالى "وإذا جائهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"النساء:83. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"رواه مسلم. ولقد عاب القرآن الكريم من يتكلمون بلا وعي ولا إدراك ويتناقلون الأخبار بلا تدبر ولا تفحص فيروجون الإشاعات ويطمسون وجه الحقيقة لا يربطون بين كلامهم وتفكيرهم ولكن لسان يتلقى عن لسان وفم ينقل عن فم في غفلة عن أثر الكلمة وخطورتها في الإساءة إلى شرف الناس وسلامة المجتمع وفي ذلك يقول الله تعالى "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهم عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين"النور:15-17. وإن كلام الإنسان دليل على عقله وعنوان على تفكيره وترجمان لخلقه فليقل خيراً أو ليصمت يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"رواه البخاري.

هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله عالم السر والنجوى المطلع على الضمائر وكل ما يخفى أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

عباد الله: إن الإسلام دين الانضباط والاستقامة فالمسلم يشعر برقابة الله عليه في كل شي وفي كل وقت فالكلام معدود ومحصى إن خيراً فخير وإن شراً فشر "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"ق:18. فعن يمين كل إنسان ملك يكتب الحسنات وعن شماله ملك يكتب السيئات وإن الله سيسأل كل إنسان عما لفظه من قول سيء وسيشهد عليه سمعه وبصره وفؤاده وقد ألقى القرآن باللائمة على من قصر في حياته حتى جاءت لحظة الاحتضار أعلن التوبة وطلب الرجعة إلى الحياة لتدارك ما فات فيه فكلامه عند مواجهة الموت لا معنى له ولا فائدة فيه ومن الواقع المخيف ما وقع فيه بعض من الناس من إلقاء بعض الكلام في المدح الكاذب والإسلام يمقت الثناء على الناس بما ليس فيهم وإطرائهم بالباطل فإن ذلك يدفعهم إلى الغرور ويزين لهم سوء عملهم فيرونه حسنا فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال "ذُكر رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك قطعت عنق صاحبك يقوله مراراً وإن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل أحسب فلاناً كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحد"رواه مسلم. وسمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدح فقال "أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل" رواه الشيخان.

ولا شيء يثير الأحقاد بين الناس ويبذر في النفوس بذور الشقاق كالمراء وهو الحوار بين اثنين بكلام يتردد بينهما لا يقصد به الوصول إلى الحق ولكن يراد به اللجاج والخصومة لتحقير الغير وإظهار التفوق عليه

ومن هنا تجيء كراهية الإسلام للمراء سواء كان في السياسة أو العلوم والآداب وأشدها المراء في الدين فهو الذي دخل بين المسلمين وأمرهم جميع ففرق كلمتهم وصدع جبهتهم وتركهم صرعى التحزب والطائفية

فدعوا المراء والجدال فإنه لا يأتي بخير ولا بد من الكلمة الحسنة التي لها سحرها العجيب فهي تقرب البعيد وتلين الصخر وتطفئ نار العداوة وتكسر حدة الخصومة وتحرك أقفال القلوب فتنفتح لها في سهولة ويسر يقول الله تعالى لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام حينما بعثهما إلى فرعون الذي قال الله عنه " فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى " النازعات 23 ، 24 : " فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى " طه:44. فالكلمة الطيبة تتغلغل في أعماق القلوب ثم ينبعث ضياؤها في أرجاء الحياة السعيدة، أما الكلمة الخبيثة فهي كالنبات الضار ينبت على شاطئ الحياة أو كشجرة كذوب فهي تهيج وتتعالى فيظن قصار النظر أنها أضخم وأقوى من الكلمة الطيبة وما هي إلا فترة وتتبين الحقيقة وفي ذلك يقول القرآن الكريم وهو يضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار"ابراهيم:24-26. فمتى يدرك الناس خطر اللسان فيضعونه في سجن حفيظ، كما قال عبد الله بن مسعود "والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان" رواه الطبراني وصححه الألباني.

ومتى يزن المرء كلمته قبل أن ينطق بها فيعقل معناها ومرماها ويدرك في وعي ويقظة أنها لا تنطلق من لسانه لتضيع ولكنها تستقر إما في صحيفة حسناته أو صحيفة أوزاره وسيئاته، " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ق 18

اللهم اجعلنا ممن يزنون كلامهم قبل النطق به واجعل أفعالنا أكثر من أقوالنا ولا تجعل ألسنتنا تؤذي أحدا.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم " ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " العنكبوت 45

وأقم الصلاة يرحمك الله

ملحوظة : ألقيت هذه الخطبة لأول مرة في عام 1404هـ

1435-3-20هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 7 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي