الدرس الخامس والأربعون : صلاة الإمام قاعدا

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 8 ربيع الثاني 1434هـ | عدد الزيارات: 2456 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

قوله "ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام إلا إمام الحي المرجو زوال علته ويصلون وراءه جلوسا ندبا"

قوله"ولا عاجز عن ركوع أو سجود" أي لا تصح إمامة عاجز عن ركوع مثل أن يكون الشخص فيه آلام في ظهره لا يستطيع أن يركع فإنه لايصح أن يكون إماما للقادر على الركوع لأن القادر على الركوع أكمل حالا من العاجز عنه فلا يصح أن يكون العاجز إماما للقادر هذا ماذهب إليه المؤلف وهو المذهب وكذلك العاجز عن السجود مثل أن يكون الإنسان قد عمل عملية لعينه يستطيع أن يركع ولكن لا يستطيع السجود إلا بإيماء فلا يصح أن يكون إماما للقادر على السجود ويصح أن يكون إماما للعاجز عنه

قوله "أو قعود أو قيام" أي لا تصح إمامة العاجز عن القعود أو القيام إلا بمثله هذا قول المؤلف والصحيح صحتها فالإمام إذا صلى قاعداً وجب على المأمومين أن يصلوا قعوداً ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم"إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ به، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا وإذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وإذَا قالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، فَقُولوا: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ، وإذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وإذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ" رواه البخاري ومسلم وهذا نص صريح بأن الصلاة خلف العاجز عن القيام بالقادر عليه صحيحة وأنه يصلي خلف إمامه قاعداً اقتداء بإمامه وأيضاً "صَلَّى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَيْتِهِ وهو شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وصَلَّى ورَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فأشَارَ إليهِم أنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ: إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ به، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا" أخرجه البخاري فكونه يشير إليهم حتى في أثناء الصلاة يدل على أن ذلك على سبيل الوجوب إذاً الإمام إذا صلى قاعداً وجب على المأمومين أن يصلوا قعوداً فإذا صلوا قياماً فصلاتهم باطلة تقول عائشة رضي الله عنها "لَمَّا ثَقُلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَاءَ بلَالٌ يُوذِنُهُ بالصَّلَاةِ، فَقالَ: مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّه مَتَى ما يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعُ النَّاسَ، فلوْ أمَرْتَ عُمَرَ، فَقالَ: مُرُوا أبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ فَقُلتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي له: إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ، وإنَّه مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعُ النَّاسَ، فلوْ أمَرْتَ عُمَرَ، قالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ فَلَمَّا دَخَلَ في الصَّلَاةِ وجَدَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بيْنَ رَجُلَيْنِ، ورِجْلَاهُ يَخُطَّانِ في الأرْضِ، حتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أبو بَكْرٍ حِسَّهُ، ذَهَبَ أبو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ، فأوْمَأَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى جَلَسَ عن يَسَارِ أبِي بَكْرٍ، فَكانَ أبو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْتَدِي أبو بَكْرٍ بصَلَاةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والنَّاسُ مُقْتَدُونَ بصَلَاةِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه" أخرجه البخاري ومسلم

وقد بقي الصحابة قياماً ولم يجلسوا كما في القاعدة إذا صلى الإمام جالساً فالمأمومين يصلون خلفه جلوس وإنه أشار إلى ذلك الإمام أحمد رحمه الله فقال "إنما بقي الصحابة قياماً لأن أبا بكر ابتدأ بهم الصلاة قياماً"

قوله "إلا إمام الحي المرجو زوال علته ويصلون وراءه جلوسا ندبا" هذا مستثنى من الصورة الأخيرة وهو قوله "أو قيام" فلو حدث لإمام الحي علة في أثناء الصلاة أعجزته عن القيام فأكمل صلاته جالساً فإن المأمومين يتمونها قعوداً خلف الإمام العاجز عن القيام ممن يرجى زوال علته

قوله "جلوسا ندبا" أي أن هذا الحكم ندب وليس بواجب والندب السنة أي فالسنة أن يصلوا خلفه جلوسا والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ به إلى أن قال وإذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ" رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري وهذا نص صريح بان الصلاة خلف العاجز عن القيام بالقادر عليه صحيحة وأنه يصلي خلف إمامه قاعدا إقتداء بإمامه والصحيح أنه للوجوب وهذه الأحكام كلها عامة لإمام الحي ولغيره وقول المصنف "المرجو زوال علته" هذا أيضا قيدٌ في أمر أطلقه الشارع فإن النبي ﷺ لم يقل إذا صلى قاعدا وأنتم ترجون زوال علته فصلوا قعودا بل قال "إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون" لعموم النص فالدليل عام مطلق وإذا كان الإمام شيخاً كبيراً لا يرجى زوال علته من ذلك أن يبقى الجماعة يصلون دائماً قعوداً والعاجز عن الركوع والسجود والقعود الصلاة خلفه صحيحة بناء على القاعدة من صحت صلاته صحت إمامته لأن هذه القاعدة دلت عليها النصوص العامة لكن الأولى أن يقوم بالإمامة في هذه الحال من كان قادر على القيام وعليه فإن الصلاة خلف العاجز عن الركوع صحيحة وكذلك العاجز عن السجود الصلاة خلفه صحيحة إذا نصلي خلف العاجز عن القيام والركوع والسجود والقعود وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذلك بناء على عمومات الأدلة كقوله ﷺ "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ" وعلى القاعدة من (صحت صلاته صحت إمامته)

قوله "فإن ابتدأ بهم قائما ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياما وجوبا" مثال ذلك: إمام يصلي بالجماعة وفي أثناء القيام أصابه وجع في ظهره أو في بطنه فجلس وأتم بهم الصلاة جالساً فالجماعة يلزمهم أن يتموا الصلاة قياماً ولا يجوز لهم الجلوس والدليل "فعل الرسول ﷺ في مرض موته حين دخل المسجد وأبو بكر يصلي بالناس قد ابتدأ بهم الصلاة قائماً فجلس النبي ﷺ إلى يسار أبي بكر وبقي أبو بكر قائماً يصلي بصلاة النبي ﷺ ويصلي الناس بصلاة أبي بكر ولم يأمرهم النبي ﷺ بالجلوس" رواه البخاري ومسلم

قوله "وتصح خلف من به سلس البول بمثله" سلس البول أي استمراره وعدم انقطاعه ولا يستطيع منعه وذلك أن الإنسان قد يبتلى بدوام الحدث من بول أو غائط أو ريح وهذا لا شك أنه مرض لا يعرف قدر نعمة الله على الإنسان بالسلامة منه إلا من أصيب به فكيف يتوضأ ويصلي من ابتلي بهذا المرض؟

الجواب: أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" الحج (78) فكل الدين ولله الحمد يسر وكيفية وضوء وصلاة هذا أن يوجه بالقول له إذا دخل الوقت فاغسل فرجك و اجعل على فرجك حفَّاظة تمنع من تسرب البول وانتشاره في جسدك وفي ثيابك ثم توضأ وضوءك للصلاة ثم صل ما شئت فروضاً ونوافل وإذا دخل وقت صلاة أخرى يتوضأ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت "جَاءَتْ فَاطِمَةُ بنْتُ أبِي حُبَيْشٍ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلا أطْهُرُ أفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَا، إنَّما ذَلِكِ عِرْقٌ، وليسَ بحَيْضٍ، فَإِذَا أقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وإذَا أدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي - قالَ: وقالَ أبِي: - ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، حتَّى يَجِيءَ ذلكَ الوَقْتُ"أخرجه البخاري وفي رواية أخرى له أيضا "أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ أبِي حُبَيْشٍ، سَأَلَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فلا أطْهُرُ، أفَأَدَعُ الصَّلَاةَ، فَقالَ: لا إنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، ولَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأيَّامِ الَّتي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وصَلِّي" وصلاة من به سلس إماماً بمن هو سليم من هذا المرض صحيحة وهذا هو القول الصحيح ودليل ذلك عموم قول النبي ﷺ "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ" وحاله مثل حال إمام متيمم بمتوضئ فكلاهما صلاته صحيحة

قوله "ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك" مثال ذلك في الحدث الأصغر: إمام أكل لحم أبل ولم يعلم أنه لحم إبل فصلى بالجماعة فلما انتهت الصلاة علم أن اللحم الذي أكله لحم إبل فهنا لا يعيد المأمومون صلاتهم والإمام يعيد صلاته لأن الإمام صلى بغير وضوء وقد قال النبي ﷺ "لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أحَدِكُمْ إذا أحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّأَ" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ للبخاري وأما المأموم فعذره ظاهر لأنه لا يعلم الغيب ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها

قوله "ولا متنجس يعلم ذلك" إذا جهل الإمام النجاسة هو والمأمومين حتى انقضت الصلاة فصلاتهم جميعاً صحيحة والعذر للجميع الجهل والمصلي بالنجاسة جاهل بها على القول الراجح ليس عليه إعادة وكذلك لو علم بها لكن نسي أن يغسلها فإن صلاته صحيحة على القول الراجح الصحيح ومن هنا يتضح الفرق بين هذه والتي قبلها وهي حكم الصلاة خلف المحدث فعلى القول الراجح إذا جهل الإمام والمأموم فإن الإمام يعيد إذا كان جاهلاً بالحدث ولا يعيد الصلاة إذا كان جاهلاً بالنجاسة والفرق بينهما أن الوضوء من الحدث من باب فعل المأمور واجتناب النجاسة من باب ترك المحظور فعن أبي سعيد الخدري "بينَما رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّي بأصحابِهِ إذ خلعَ نعليهِ فوضعَهُما عن يسارِهِ فلمَّا رأى ذلِكَ القومُ ألقوا نعالَهُم فلمَّا قضى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صلاتَهُ قالَ ما حملَكُم علَى إلقاءِ نعالِكُم قالوا رأيناكَ ألقيتَ نعليكَ فألقينا نعالَنا فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ جبريلَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أتاني فأخبرَني أنَّ فيهِما قذرًا - أو قالَ أذًى - وقالَ إذا جاءَ أحدُكُم إلى المسجدِ فلينظُر فإن رأى في نعليهِ قذرًا أو أذًى فليمسَحهُ وليصلِّ فيهِما" صحيح أبي داود للألباني وهذا صريح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد لبس نعليه قذرتين لكنه لم يكن عالماً بذلك ولو كانت الصلاة تبطل بالجهل لاستأنف الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته وإن علم في أثناء الصلاة بالنجاسة فإن كان يمكنه ازالتها أزالها وإن كان لا يمكنه انصرف وأتم المأمومون صلاتهم مثاله: لو كانت النجاسة في نعليه أو كانت في غترته أو كانت في قميصه وعليه سراويل فهذه يمكن إزالتها فيخلع القميص ولا يبقى عليه إلا السراويل وسيستغرب المصلون ولكن لا يضر ولا حرج والذي ينبغي أن يفعل الإنسان الشيء المشروع والناس إذا استنكروه أول مره فلن يستنكروه في المرة الثانية

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1434/4/8 هــ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر