الدرس السادس والأربعون : إمامة الأمي

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 8 ربيع الثاني 1434هـ | عدد الزيارات: 2251 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

قوله "ولا إمامة الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة" أي لا تصح إمامة الأمي وهو من لا يحسن قراءة الفاتحة لا حفظا ولا في المصحف ولو كان يقرأ كل القرآن ولا يحسن الفاتحة فهو أمي

والأمي نسبة إلى الأم والإنسان إذا خرج من أمه فهو لا يعلم شيئاً كما قال تعالى "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا" النحل (78) والأمي لغة من لا يقرأ ولا يكتب لقوله تعالى "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" الجمعة (2) وقال تعالى "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ" الأعراف (158) وقال تعالى "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ" العنكبوت (48) وسميت فاتحة لأنه افتتح بها القرآن ولها أسامي متعددة

قوله "أو يدغم فيها مالا يدغم" فلا يصح أن يدغم في الفاتحة ما لا يدغم فإذا أدغم حرفاً بما لا يقاربه ولا يماثله فهو غلط مثل الحمد لله رب العالمين أدغم الهاء بالراء فهذا ادغام غير صحيح لأن الهاء بعيدة عن الراء فهذا أمي حتى ولو كان لا يستطيع إلا هذا والإدغام عند العلماء كبير وصغير فإذا أدغمت حرفاً بمثله فهذا إدغام صغير وإذا أدغمت حرفاً بما يقاربه فهو إدغام كبير وإذا أدغمت حرفاً بما لا يقاربه ولا يماثله فهو غلط مثل الحمد للرب العالمين فقد أسقط ذلك الحرف المدغم أما إدغام المتقاربين فمثل إدغام الدال بالجيم "قَدجَاءَكُمْ" وهذه فيها قراءة والقراءة المشهورة هي التحقيق "قَدْ جَاءَكُمْ" لكن لو كان يقول "قدجاءكم" بإدغام الدال في الجيم فإنه لا يعد أمياً لكن ليس في الفاتحة مثل "قد جاءكم"

قوله "أو يبدل حرفاً" أي يبدل حرفا بحرف وهو الألتغ مثل أن يبدل الراء باللام أي يجعل الراء لاماً فيقول "الحمد لله لب العالمين" فهذا أمي لأنه أسقط حرفاً من الفاتحة بغيره ويستثنى من هذه المسألة إبدال الضاد ظاءً على القول الراجح وهو المذهب وذلك لخفاء الفرق بينهما ولا سيما إذا كان عامياً فإن العّامي لا يكاد يفرق بين الضاد والظاء فإذا قال غير المغظوب عليهم ولا الظالين فقد أبدل الضاد وجعلها ظاء فهذا يعفى عنه لمشقة التحرز منه وعسر الفرق بينهما لا سيما من العوام

فالإبدال كما يلي

أولاً : إبدال حرف بحرف لا يماثله فهذا أمي

ثانياً : إبدال حرف بما يقاربه مثل الضاد بالظاء فهو معفو عنه

ثالثاً : إبدال الصاد سيناً مثل السراط و الصراط فهذا جائز بل ينبغي أن يقرأ بها أحياناً لأنها قراءة سبعية أي من القراءات السبع بشرط ألا يكون أمام العامة فيشوش عليهم

قوله "أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى" أي يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى واللحن تغيير الحركات سواء كان تغييراً صرفياً أو نحوياً فإن كان يغير المعنى فإن المغير أمي وإن كان لا يغيره فليس بأمي فإذا قال الحمد لله رب العالمين بفتح الباء فاللحن هذا لا يحيل المعنى وعلى هذا فليس بأمي فيجوز أن يكون إماماً بمن هو قارئ وإذا قال "أهدنا الصراط المستقيم" بفتح الهمزة فهذا يحيل المعنى لأن أهدنا من الإهداء أي إعطاء الهدية وإذا قلت "اهدنا" بهمزة الوصل أي دلنا ووفقنا ولو قال "إياكِ نعبد" بكسر الكاف فهذه إحالة شديدة فهو أمي ولو قال "صراط الذين أنعمتُ عليهم" بضم التاء فهذا يحيل المعنى ولو قال "إياك نعبَد" فهذا لا يحيل المعنى وكذا "إياك نستعينَ" بفتح النون الثانية فهذا لا يحيل المعنى وليس معنى ذلك جواز قراءة الفاتحة ملحونة فإنه لا يجوز أن يلحن ولو كان لا يحيل المعنى لكن المراد صحة الإمامة

قوله "إلا بمثله" أي إذا صلى أمي لا يعرف الفاتحة بأمي مثله فصلاته صحيحة لمساواته له في النقص ولو صلى أمي بقارئ فإنه لا يصح وهذا هو المذهب وتعليل ذلك أن المأموم أعلى حالاً من الإمام فكيف يأتم الأعلى بالأدنى أيضاَ فيها مخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ" رواه مسلم عن أبو مسعود عقبة بن عمرو

قوله "و إن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته" أي إن قدر الأمي على إصلاح اللحن الذي يحيل المعنى ولم يصلحه فإن صلاته لا تصح وإن لم يقدر فصلاته صحيحة دون إمامته إلا بمثله ولكن الصحيح أنها تصح إمامته في هذه الحال لأنه معذور لعجزه عن إقامة الفاتحة وقد قال الله تعالى "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" التغابن (16) وقوله تعالى "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" البقرة (286) ويوجد في بعض البادية من لا يستطيع أن ينطق بالفاتحة على وجه صحيح فربما تسمعه يقرأ "أهدنا" ولا يمكن أن يقرأ إلا ما كان قد اعتاده والعاجز عن إصلاح اللحن صلاته صحيحة

قوله "وتكره إمامة اللحان" اللحان كثير اللحن والمراد في غير الفاتحة فإن كان في الفاتحة وأحال المعنى صار أمياً لا تصح إمامته على المذهب لكن إذا كان كثير اللحن في غير الفاتحة فإمامته صحيحة لكن تكره والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ" صحيح مسلم فهذا خبر بمعنى الأمر فإذا كان خبراً بمعنى الأمر فإنه إذا أمهم من ليس أقرأهم فقد خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

قوله "والفأفاء والتمتام ومن لا يفصح ببعض الحروف" أي وتكره إمامة الفأفاء والتمتام ومن لا يفصح ببعض الحروف "والفأفاء" هو الذي يكرر الفاء أي إذا نطق بالفاء كررها "والتمتام" هو من يكرر التاء ومن الناس من يكرر الواو أو غيرها فالذي يكرر الحروف تكره إمامته من أجل زيادة الحرف ولكن لو أم الناس فإمامته صحيحة "ومن لا يفصح ببعض الحروف" أي يخفيها بعض الشيء وليس المراد أنه يسقطها لأنه إذا أسقطها فإن صلاته لا تصح إذا كان في الفاتحة لنقصانها أما إذا كان يذكرها ولكن بدون إفصاح فإن إمامته مكروهة

قوله "و أن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن" أي يكره أن يؤم أجنبية فأكثر والأجنبية من ليست من محارمه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ" رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري والصحيح أنه إذا خلا بها فأنه يحرم عليه أن يؤمها لأن ما أفضى إلى المحرم فهو محرم

قوله "فأكثر" إذا كان مع المرأة مثلها انتفت الخلوة وأحياناً في بعض المساجد التي تكون فيها الجماعة قليلة ولا سيما في قيام الليل في رمضان فيأتي الإنسان إلى المسجد ولا يجد فيه رجالاً لكن يجد فيه امرأتين أو ثلاث أو أربع في خلف المسجد فلا حرج أن يقدم بهن إلا إذا خاف الفتنة فإن خاف الفتنة فإنه حرام لأن ما كان ذريعة للحرام فهو حرام

قوله "لا رجل معهن" أي لو كان معهن رجل فلا كراهة

قوله "أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق" أي يكره أن يؤم قوما أكثرهم يكرهه بحق واستدل المصنف بحديث ثلاثة لاتجاوز صلاتهم آذانهم وذكر وإمام قوم وهم له كارهون لكن الحديث لضعفه لم يكن موجبا للحكم الذي يقتضيه لفظه فلا يستدل به وقوله "أكثرهم يكرهه بحق" أفادنا المصنف أنه لو كان الأقل يكرهه فلا عبرة به قوله "بحق" أي أنه لو كرهوه بغير حق فلا عبرة بكراهتهم مثال ذلك: لو كرهوه لأنه يحرص على اتباع السنة في الصلاة فيقرأ بهم السور المسنونة ويصلي بهم صلاة متأنية فإن إمامته فيهم لا تكره لأنهم كرهوه بغير حق فلا عبرة بكراهتهم

قوله "وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما" ولد الزنا خلق من ماء سفاح لا نكاح فلا ينسب لأحد لا لزاني ولا لزوج المرأة إذا كانت ذات زوج لأنه ليس له أب شرعي وولد الزنا قد يكون سليم العقيدة مستقيم الدين فيكون كغيره يثبت له ما يثبت لغيره ولهذا قال المصنف تصح إمامته ولا تكره لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ" والجندي أيضا تصح إمامته ولا تكره وهو الشرطي حتى ولو كان في لباسه العسكري لأنه رجل من المسلمين

قوله "من يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه" أي أن المؤدي هو الإمام والمأموم هو الذي يقضي مثال ذلك دخل رجل والناس يصلون صلاة الظهر وذكر أن عليه صلاة الظهر بالأمس فعليه أن يبدأ بالصلاة الفائته فيدخل معهم وهو ينوي ظهر أمس وهم يصلون ظهر اليوم فهذا صحيح لأنه قاضٍ صلى خلف مؤدٍ ولا فلا بأس فصلاة الظهر رباعية لكن اختلف الوقت وعكس ذلك أن يؤم من يقضي الصلاة بمن يؤديها فيكون الإمام هو الذي يقضي والمأموم هو الذي يؤدي مثاله: رجل ذكر أنه عليه فائته ظهر أمس فقال لآخر سأصلي ظهر أمس وصل معي ظهرك اليوم فالإمام يصلي ظهر أمس والمأموم ظهر اليوم إذاً فالإمام يقضي والمأموم يؤدي فصحت المؤداة خلف المقضية وبالعكس لأن الصلاة واحدة وإنما اختلف الزمن

قوله "لا مفترض بمتنفل" أي لا يصح ائتمام مفترض بمتنفل فلا يجوز أن يكون الإمام متنفلاً والمأموم مفترضاً والصحيح أن صلاة المفترض خلف المتنفل صحيحة

أولا: لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ"

ثانياً: أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم الصلاة نفسها وهو في الصحيحين ومعلوم أن الصلاة الأولى هي الفريضة والثانية هي النافلة ولم ينكر عليه

قوله "ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها" أي ولا يصح ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها يعني من الصلوات الرباعية وذلك لاختلاف نية الصلاتين ولا يستثنى من ذلك إلا المسبوق في صلاة الجمعة إذا أدرك أقل من ركعة فإنه في هذه الحال يدخل مع الإمام بنية الظهر والإمام يصلي الجمعة فاختلفت النية هنا فالإمام يصلي صلاة الجمعة وهذا المسبوق يصليها صلاة الظهر قالوا هذا لابأس به لأن الظهر بدل عن الجمعة إذا فاتت والقول الصحيح أنه يصح أن يأتم من يصلي الظهر بمن يصلي العصر ومن يصلي العصر بمن يصلي الظهر ولا بأس بهذا

وعلى هذا القول إذا صلى صلاة أكثر من صلاة الإمام فلا إشكال في المسألة ، مثاله لو صلى العشاء خلف من يصلي المغرب فإذا سلم الإمام يقوم ويأتي بركعة ويجوز أن يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء فإن أدرك الإمام في الثانية فما بعدها فلا إشكال لأنه يتابع إمامه ويسلم معه وإن دخل في الثالثة أتى بعده بركعة

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1434/4/8 هــ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر