‌‌الدرس 23 الجزء الأول عوامل إصلاح المجتمع 

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 25 جمادى الأولى 1444هـ | عدد الزيارات: 211 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:

أيها الإخوة وأيها الأبناء الكرام؛ المجتمع الإسلامي في أشد الحاجة إلى أن يسير على النهج القويم، وأن يأخذ بالعوامل والأسباب والوسائل التي بها صلاحه، وأن يسير على النهج الذي سار عليه خيرة هذه الأمة، سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، ومعلوم أن العوامل التي بها صلاح المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي، هي العوامل التي قام بها إمام المرسلين، وخاتم النبيين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقام بها صحابته الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون المهديون.

ومن المعلوم أن هذه العوامل قام بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة أولا، ثم في المدينة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي صلح به أولها

والمعنى: أن الذي صلح به أولها وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي يصلح به آخرها إلى يوم القيامة.

ومن أراد صلاح المجتمع الإسلامي بغير الطريق والوسائل والعوامل التي صلح بها الأولون فقد غلط، وقال غير الحق، فليس إلى غير هذا من سبيل، وهو السبيل الذي درج عليه نبينا عليه الصلاة والسلام، ودرج عليه صحابته الكرام ثم اتباعهم بإحسان إلى يومنا هذا، وهو العناية بالقرآن العظيم، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الناس إليهما والتفقه فيهما، ونشرهما بين الناس عن علم وبصيرة وإيضاح ما دل عليه هذان الأصلان من الأحكام في العقيدة الأساسية الصحيحة.

والرسول صلى الله عليه وسلم أول عمل عمله، وأول أساس رسمه، أنه دعا الناس إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له.

هذا أول عمل دعا إليه وسار عليه، هو دعوة الناس إلى توحيد الله، وإرشادهم إلى تفاصيل ذلك.

والكلمة التي دلت على هذا المعنى هي قول: لا إله إلا الله هذه هي الأساس المتين، ومعها شهادة أن محمدا رسول الله.

هذان الأصلان والأساسان المهمان: هما أساس الإسلام، وهما أساس صلاح هذه الأمة، من أخذ بهما واستقام عليهما عملا وعلما ودعوة وصبرا، استقام له أمره وأصلح الله به الأمة، على قدر جهاده وقدرته وأسبابه، ومن أضاعهما أو أضاع أحدهما ضاع وهلك.

ولما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام، وأنزل القرآن، كان أول ما نزل عليه: اقرأ، ثم المدثر، فقام إلى الناس ينذرهم ويدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم نقمة الله عز وجل، ويقول: «يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » (جاء الحديث بلفظ "يا أيُّها الناسُ، قولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، تُفلِحوا، " صححه شعيب الأرناؤوط في تخريج سنن الدارقطني) . فاستكبر المشركون واستنكروا هذا؛ لأنه ليس الأمر الذي اعتادوه، ولهذا استنكروه، وقالوا عند ذلك: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص 23) وقالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات 36) ،وبسبب تساهل الكثير من العلماء وطلبة العلم، وأعيان أهل الإسلام الذين فقهوا توحيد الله، بسبب التساهل في هذا الأصل الأصيل، انتشر الشرك في بلدان كثيرة، وعبدت القبور وأهلها من دون الله.

وهذا من دسائس الشيطان ومن مكائده، فإنه أحرص شيء على إزاحة الناس عن عقيدتهم ودينهم، وعلى إبعادهم عنها بكل وسيلة.

فالواجب على طلبة العلم - وهم أمل الأمة بعد الله عز وجل في القيادة المستقبلية أن يقودوا السفينة بحكمة وإخلاص وصدق، وأن يعنوا بالأساس وأن يعرفوا العامل الوحيد العظيم الذي عليه الارتكاز، والذي يتبعه ما سواه، وهو العناية بتوحيد الله والإخلاص له، والعناية بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقا، وأن الواجب اتباعه، والسير في منهاجه، وأن صحابته هم خير الأمة، وهم أفضلها، فيجب حسن الظن بهم، واعتقاد عدالتهم، وأنهم خير الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم حملة السنة وحملة القرآن، فوجب السير على منهاجهم والترضي عنهم جميعا، واعتقاد أنهم خير الناس، وهم أفضل الناس بعد الأنبياء كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (صحيح البخاري) » وهناك أحاديث أخرى دلت على ذلك.

ويجب على طالب العلم وعلى القائد أن يعظم أمر الله ونهيه، وأن يستقر خوف الله في قلبه، فوق جميع الأشياء، وألا يبالي بما يرجف به المرجفون ضد الحق وأهله ثقة بالله، وتصديقا لما وعد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وكافة الرسل كما في قوله جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم 13) {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم 14) الآية،

فطالب العلم العالم والموجه، والقائد البصير لا يبالي بإرجاف عباد القبور، ولا بإرجاف الخرافيين، ولا بإرجاف من يعادي الإسلام من أي صنف، بل يصمد في الميدان، ويصبر ويعلق قلبه بالله، ويخافه سبحانه، ويرجو منه النصر جل وعلا، فهو الناصر وهو الولي سبحانه وتعالى، وقد وعد أن ينصر من ينصره فقال: سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم 47) لكن بشرط التمسك بدين الله، والإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على دين الله.

هذا هو السبب، وهذا هو الشرط في نصر الله لنا، يقول سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور 55)

فهذا وعده عز وجل لمن استقام على الإيمان والهدى والعمل الصالح: أن الله يستخلفه في الأرض ويمكن له دينه، ويؤمنه ويعيذه من شر الأعداء ومكائدهم وينصره عليهم.

ومن تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله تعظيم سنته، والدعوة إليها وتنفيذ مقاصدها، والتحذير من خلافها، وتفسير القرآن الكريم بها فيما قد يخفى من آياته، فإنه يفسر بالسنة ويوضح بها، فالسنة توضح القرآن وتبينه وتدل عليه، وتعبر عنه، كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل 44)

هذا الأساس العظيم يجب أن يكون منه المنطلق للدعاة المخلصين، والمصلحين في الأرض، الذين يريدون أن يتولوا إصلاح المجتمع والأخذ بيده إلى شاطئ السلامة، وسفينة النجاة .

ثم بعد ذلك ينظر في العوامل الأخرى التي هي تابعة لهذا الأساس، فيدعو إلى أداء فرائض الله من صلاة وزكاة وصوم وحج، وغير ذلك، وينهى عن محارم الله من الشرك وما دونه من سائر المعاصي والشرور، ويسعى بالإصلاح بين الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك فهو ساع بكل جهده إلى إقامة أمر الله في أرض الله، وإلى ترك محارم الله والوقوف عند حدود الله، وإلى الحذر من البدع المحظورة في الدين، هكذا يكون المصلح الموفق يأخذ العوامل عاملا عاملا مع مراعاة الأساس المتين، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله علما وعملا.

أما الصحابة والتابعون فكانت سيرتهم، وكانت أعمالهم مستقاة من الكتاب العظيم، يتدبرونه ويقرءونه بقصد صالح، بقصد العلم والإفادة والعمل، ومن السنة كذلك يدرسونها ويحفظونها، ويأخذون منها العلم والعمل.

هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان التابعون لهم بإحسان قبل وجود المؤلفات في الحديث وغير الحديث.

فقدر لنفسك مع أولئك، واستنبط من كتاب ربك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كلام أهل العلم ما يعينك على فهم كتاب الله، وعلى فهم السنة، وكن حريصا على العلم والفقه في الدين حتى تستطيع أن توجه المجتمع إلى الطريق السوي.

هكذا يكون المؤمن، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا كان أتباعهم من التابعين، وأتباع التابعين والمصلحين، وأئمة الهدى يدرسون كتاب الله، ويعملون بما فيه ويقرئونه الناس ويعلمونهم إياه، ويرشدونهم إلى معانيه، ويعلمونهم السنة ويحثونهم على التمسك بها والفقه فيها، ويوصونهم بتعظيم الأوامر والنواهي، والوقوف عند الحدود التي حدها الله ورسوله مدة حياتهم في هذه العاجلة.

وعلى الداعي إلى الله سبحانه والراغب في الإصلاح أن يراعي عاملين:

عامل التناصح والتواصي بالحق مع إخوانه وزملائه ومع أعيان المجتمع وقادته. وعامل الصبر على ما قد يقع من الأذى من الأعيان أو غيرهم. عملا بما دلت عليه السورة السابقة وهي قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) (سورة العصر)

وتأسيا بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في آخر سورة الأحقاف وهي مكية: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف35) الآية، وقال سبحانه في سورة آل عمران وهي مدنية: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران 186) والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وكل من سلك مسلك الرسل من الدعاة والمصلحين، نجح في دعوته، وفاز بالعاقبة الحميدة والنصر على الأعداء ومن سبر ذلك، ودرس أخبار المصلحين وسيرتهم علم ذلك وتحققه.

فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق قادتهم لكل خير، ويصلح لهم البطانة، وأن يعيذ المسلمين جميعا في كل مكان من مضلات الفتن، ومن طاعة الهوى والشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

٢٤ جمادى الأولى ١٤٤٤ هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
 الدرس 146 الجزء الرابع  الاستسلام لشرع الله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 145 الجزء الرابع: وجوب طاعة الله ورسوله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 144  الجزء الرابع الحلف بغير الله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 143 الجزء الرابع تأويل الصفات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 142 الجزء الرابع التحدث بالنعم والنهي عن الإسراف - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 141 الجزء الرابع ‌‌أخلاق أهل العلم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر