الدرس 44 وجوب التعاون على البر والتقوى

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 17 ربيع الثاني 1442هـ | عدد الزيارات: 807 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ

وبعدُ ؛

التعاونُ على البر والتقوى كلمةٌ جامعةٌ تجمعُ الخيرَ كلَّهُ ، وقد أمر اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه بالتعاون على البر والتقوى ونهاهم عن التعاونِ على الإثم والعدوانِ ، حيثُ قال سبحانه وتعالى :" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " المائدة 2 .

فجديرٌ بكل مسلمٍ وكلِّ مسلمةٍ في أنحاء الدنيا أن يحفظوا هذا العملَ وأن يعنوا به كثيراً ؛ لأن ذلك يترتبُ عليه ، بتوفيق الله ، صلاحُ المجتمعِ وتعاونُهُ على الخير وابتعادُه عن الشرِّ وإحساسُه بالمسئولية ووقوفُه عند الحد الذي ينبغي أن يقف عنده ، وقد جاء في هذا المعنى نصوصٌ كثيرةٌ منها قولُه عزَّ وجلَّ " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " سورة العصر ، فهذه السورةُ العظيمةُ القصيرةُ اشتملتْ على معانٍ عظيمةٍ من جُمْلَتِها التواصي بالحق وهو التعاون على البر والتقوى ، والرابحون السعداءُ في كل زمان وفي كل مكان هم الذين حققوا هذه الصفاتِ الأربعَ التي دلَّتْ عليها هذه السورةُ ، وهم الناجون من جميع أنواعِ الخسران .

فينبغي لكل مسلمٍ أن يحققَها وأن يَلزمَها وأن يدعوَ إليها وهي الإيمانُ بالله ورسولِه إيماناً صادقاً يتضمنُ الإخلاصَ لله في العبادة وتصديقَ أخبارِه سبحانه ، ويتضمنُ الشهادةَ له بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتصديقَ أخباره عليه الصلاة والسلام ، كما يتضمنُ العملَ الصالحَ ، فإن الإيمانَ قولٌ وعملٌ يزيدُ بالطاعةِ وينقصُ بالمعصيةِ عند أهل السنة والجماعة ، فالإيمانُ الصادق يتضمنُ قولَ القلبِ واللسانِ وعملَ القلبِ والجوارحِ ، وعملُ القلب بمحبة الله والإخلاصِ له وخوفهِ ورجائه والشوقِ إليه ومحبةِ الخيرِ للمسلمين مثلِ دعائهم إليه كما يتضمن العملَ الصالحَ بالجوارح .
ثم يتضمن أمراً ثالثاً وهو التواصي بالحق وهو داخلٌ في العملِ الصالحِ وداخلٌ في الإيمان ، ولكن نبَّه اللهُ عليه فأفردَه بالذكرِ بياناً لعظمِ شأنِه ، فإن التواصيَ له شأنٌ عظيمٌ وهو التعاون على البر والتقوى والتناصحُ في الله وإرشادُ العباد إلى ما ينفعهم ونهيهم عمَّا يضرُهم ، وكذا يدخلُ في الإيمان أيضاً الأمرُ الرابعُ وهو التواصي بالصبرِ ، فاشتملتْ هذه السورةُ العظيمةُ على جميع أنواع الخير وأصولِه وأسبابِ السعادةِ .
فالتعاون على البر والتقوى معناه التعاون على تحقيق الإيمان قولاً وعملاً وعقيدةً ، فالبرُ والتقوى عند اقترانهما يدلان على أداء الفرائض وترك المحارم ، فالبر هو أداء الفرائض واكتساب الخير والمسارعة إليه وتحقيقه ، والتقوى ترك المحارم ونبذ الشر ، وعند إفراد أحدهما عن الآخر يشمل الدين كلُّه ، فالبر عند الإطلاق هو الدين كلُّه والتقوى عند الإطلاق هي الدين كله كما قال عز وجل " ولكنَّ البر من آمن بالله واليوم الآخر "البقرة 177 إلى قوله تعالى " أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " البقرة 177 ، وقال تعالى في آية أخرى " ولكنَّ البر من اتقى " البقرة 189 .

والتعاون على البر والتقوى هو تعاون على تحقيق ما أمر الله به ورسولُه قولاً وعملاً وعقيدة وعلى ترك ما حرم اللهُ ورسولُه قولاً وعملاً وعقيدة ، وكلُ إنسان محتاج إلى هذا التعاون أيّما كان ذكرا كان أو أنثى ، حيث تحصل له السعادةُ العاجلةُ والآجلةُ بهذا التعاون والنجاةُ في الدنيا والآخرة والسلامةُ من جميع أنواع الهلاك والفساد ، وعلى حسب صدق العبد في ذلك وإخلاصه يكون حظه من هذا الربح ، وعلى حسب تساهله في ذلك يكون نصيبه من الخسران ، فالكل بالكل والحصة بالحصة ، فمن لم يقم بهذه الأمور الأربعة علماً وعملاً فاته الخيرُ كلُّه ونزل به الخسرانُ كلُّه ، ومن فاته شيء من ذلك ناله من الخسرانُ بقدر ما فاته من تحقيق هذه الأمور الأربعة .
ولا ريبَ أن أهل العلم أولى الناس بتحقيق هذه الأمور وذلك بالتعاون على البر والتقوى عن إيمان وصدق وإخلاص وصبر ومصابرة لأن العامة قد لا يستطيعون ذلك لعدم فقههم وعلمهم ، ولا يستطيعون إلا الشيء اليسير من ذلك على حسب علمهم ، ولكن أهل العلم لهم القدرة على ذلك أكثر من غيرهم وكلما زاد العلم بالله وبرسوله وبدينه زاد الواجب وزادت المسئولية .

وفي هذا المعنى يقول عز وجل " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " التوبة 71 ، فكون بعضِهم أولياءَ بعض يقتضي التناصحَ والتعاونَ على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه والحذر من كل ما يخالف هذه الولاية ويضعفها ، فالمؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله والمؤمنة كذلك ولية أختها في الله وولية أخيها في الله ، وهذا واجب على الجميع ، وعلى كل منهم أن يدل أخيه على الخير وينصح له ويحذره من كل شر وبذلك تتحقق الولاية منك لأخيك بالتعاون معه على البر والتقوى والنصيحة له في كل شيء تعلم أنه من الخير وتكره له كل شيء تعلم أنه من الشر وتعينه على الخير وعلى ترك الشر وتفرح بحصوله على الخير ويحزنك أن يقع في الشر لأنه أخوك .
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام " لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه ، ويقول عليه الصلاة والسلام " إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وشَبَّكَ أصَابِعَهُ. " متفق عليه ، من حديث أبي موسى الأشعري ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضا " : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ ، وَتَرَاحُمِهِمْ ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" رواه مسلم .

وفي هذا المعنى أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري ، رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " ، وفي هذا الحديث العظيم إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أن الدين كلَه النصيحةُ .

والنصحُ هو الإخلاص في الشيء وعدمُ الغش والخيانة فيه ، فالمسلمُ لعظم ولايته لأخيه ومحبته لأخيه ينصح له ويوجهه إلى كل ما ينفعه ويراه خالصاً لا شائبة فيه ولا غش فيه .
وفي هذا المعنى أيضاً ما رواه الشيخان من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال " بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " .
وأنصحُ الناس للناس هم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأنبياء ثم بعدهم العلماءُ ، فهم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم في الخير والنصح والدعوة إلى الله والصبر على الأذى والتحمل .

ومن الولاية والنصح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولهذا قال الله عز وجل في الآية السابقة " ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران 104، ومن ذلك الدعوةُ إلى الخير والإرشادُ إليه وتعليم الجاهل وإرشاد الضال إلى طريق الصواب كما قال عز وجل " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " فصلت 33 ، فليس هناك أحدٌ أحسنَ قولاً ممن دعا إلى الله وقرن ذلك بالعمل الصالح .
* والداعي إلى الله والدال على الخير يجب أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهي عنه ، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الداعي إلى الله له مثل أجور من هداه الله على يديه ، وهذا خير عظيم ، يقول عليه الصلاة والسلام " مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا." رواه مسلم من حديث أبي هريرة .

والتعاون على البر والتقوى والتناصح يقتضي الدعوةَ إلى الخير والإعانةَ عليه ، وهو أيضاً يقتضي التحذيرَ من الشر وعدمَ التعاون مع أهل الشر ، فلا تُعنْ أخاك على ما يغضب الله عليه ، ولا تُعِنْه على أي معصية بل تنصح له في تركها وتحذره من شرورها ، وهذا من البر والتقوى . وإذا أعنته على المعصية وسهلت له سبيلها كنت ممن تعاون معه على الإثم والعدوان ، سواء كانت المعصية عملية أو قولية كالتهاون بالصلاة أو بالزكاة أو بالصيام أو حج البيت أو بعقوق الوالدين أو أحدهما أو بقطيعة الرحم أو بحلق اللحى أو بإسبال الثياب أو بالكذب والغيبة والنميمة أو السباب واللعن أو بغير هذا من أنواع المعاصي القولية والفعلية ، عملاً بقول الله سبحانه " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " المائدة 2 ، ويدخل في الإثم جميع المعاصي .
أما العدوان فهو التعدي لحدود الله والتعدي على الناس أو التعدي على ما فرض الله بالزيادة أو النقص ، والبدعة من العدوان لأنها زيادة على ما شرع الله ، فيسمى المبتدع متعدياً والظالم للناس متعدياً والتارك لما أنزل الله آثماً متعدياً لأمر الله ، فاقتراف المعاصي إثم ، والتعدي على ما فرض الله والزيادة على ما فرض الله والظلم لعباد الله عدوان منهي عنه وداخل في الإثم ، كما قال تعالى " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، ثم ختم الله الآية بأمره سبحانه وتعالى بالتقوى والتحذير من شدة العقاب ، فقال " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " ، والمعنى احذروا مغبة التعاون على الإثم والعدوان وترك التعاون على البر والتقوى ومن العاقبة في ذلك شدة العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه وتعدى حدوده .

نسأل اللهَ بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يوفقنا وإيَّاكُم وسائرَ المسلمين للتعاون على البر والتقوى والصدقِ في ذلك ، وأن نبدأ بأنفسنا لأنَّ الداعيَ إلى الله قدوةٌ وطالبَ العلمِ قدوةٌ ، فعليه أن يحاسب نفسَهُ في كلِّ شيء ويجاهدَها في عمل كلِّ خير وتركِ كلِّ شر حتى يكونَ ذلك أجدى لدعوته وأنفعَ لنصحه وأكملَ في تلقي الناس لنصيحته والانتفاعِ بدعوته وإرشادهِ وأمرِه بالمعروف ونهيِهِ عن المنكر .
وصلَى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه .

17 - 4 - 1442هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر