الدرس التاسع والثلاثون: الحديث 29 أبواب الخير ومسالك الهدى

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 10 جمادى الآخرة 1437هـ | عدد الزيارات: 5316 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

" عَن مُعَاذ بن جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلتُ يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بعَمَل يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ النار قَال: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئَا، وَتُقِيْمُ الصَّلاة، وَتُؤتِي الزَّكَاة، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْر: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ تَلا "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ" حَتَّى بَلَغَ "يَعْلَمُونْ" ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ يَانَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ." رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح

ترجمة الراوي

معاذ بن جبل الخزرجي الأنصاري هو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، الأنصاري الخزرجي، وعن الواقدي عن أشياخ له قالوا: كان معاذ رجلا طَوَالا أبيض حسن الشعر عظيم العينين مجموع الحاجبين جعدا قططا، عن ابن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شابًّا جميلا سمحًا من خير شباب قومه، يكنى أبا عبد الرحمن، إمام فقيه، وعالم، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأردفه الرسول وراءه، وشيعه ماشيًا في مخرجه لليمن وهو راكب، وبعثه قاضيًا إلى الجند من اليمن بعد غزوة تبوك وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة ليعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وكان له من الولد عبد الرحمن وأم عبد الله وولد آخر لم يذكر اسمه، اتفق أهل التاريخ أن معاذًا مات في طاعون عمواس بناحية الأردن من الشام سنة ثماني عشرة، واختلفوا في عمره على قولين: أحدهما: ثمان وثلاثون سنة، والثاني: ثلاث وثلاثون

أهمية الحديث

هذا الحديث تضمن الأعمال الصالحة التي تدخل الجنة وتُبعد عن النار، وهذا أمر عظيم جداً، لأنه من أجل دخول الجنة والنجاة من النار أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: لقد سألت عن عظيم

الشرح

هِمَمُ الصحابة رضي الله عنهم عالية، فلم نسمع منهم يسألون المصطفى عن الكسب المادي كما هو حال بعض الناس بل قال (أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني من النارَ) أي يكون سبباً لدخولي الجنة ويبعدني عن النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقَد سَأَلتَ عَنْ عَظيمٍ) نعم هذه هي الخاتمة الحسنة أن تدخل الجنة وتبتعد عن النار

قوله صلى الله عليه وسلم (وَإِنهُ ليَسيرٌ عَلى مِنْ يَسرَهُ اللهُ عَلَيه) على من وفقه الله له اللهم وفقنا لذلك، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإن الدين الإسلامي مبني على اليسر، قال الله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ هذا الدينُ يُسر، وَلَن يُشَاد الدينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ) فهو يسير لكن لمن يسره الله عليه، ثم أرشده لعبادته مخلصاً له الدين يعبد الله لا يشرك به شيئاً بقوله ( تَعبُدَ اللهَ) أي تتذلل له بالعبادة حباً وتعظيماً، فبالمحبة تفعل الطاعات وبالتعظيم تترك المعاصي

قوله صلى الله عليه وسلم (لا تُشرِك بِهِ شيئا) لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً

قوله صلى الله عليه وسلم (وَتُقيم الصَلاةَ) إقامتها الإتيان بها على أكمل أحوالها

قوله صلى الله عليه وسلم (وَتُؤتي الزكَاةَ) تعطي الزكاة وهي المال الواجب بذله لمستحقه من الأموال الزكوية تعبداً لله وهي الذهب والفضه والماشية والخارج من الأرض وعروض التجارة

قوله صلى الله عليه وسلم (وَتَصوم رَمَضَانَ) أي تمسك عن المفطرات تعبداً لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وفي اللغة الإمساك

قوله صلى الله عليه وسلم (وَتَحُج البَيتَ) أي تقصد البيت لأداء النسك في وقت مخصوص تعبداً لله

قوله صلى الله عليه وسلم (أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَير) أي مسائل الخير

قوله صلى الله عليه وسلم (الصَّومُ جنةٌ) أي مانع يمنع صاحبه في الدنيا ويمنع صاحبه في الآخرة ففي الدنيا يمنع صاحبه من تناول الشهوات الممنوعة في الصوم، وفي الآخرة فهو جُنَّةٌ من النار، يقيك من النار يوم القيامة

قوله صلى الله عليه وسلم (وَالصَّدَقَة تُطفِىء الخَطيئَة كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّار) والصدقة مطلقاً سواء الفريضة أو النافلة، أي تطفئ الصدقة الخطيئة (كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّار) فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الأمر المعنوي بالأمر الحسي

قوله صلى الله عليه وسلم (وَصَلاةُ الرّجُل في جَوفِ اللَّيلِ) هذه معطوفة على قوله (الصدقة) أي وصلاة الرجل في جوف الليل تطفىء الخطيئة، وجوف الليل وسطه، ثم تلا صلى الله عليه وسلم (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قرأ صلى الله عليه وسلم (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) هذا في وصف المؤمنين، أي أنهم لا ينامون (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) إن ذكروا ذنوبهم خافوا، وإن ذكروا فضل الله طمعوا، فهم بين الخوف والرجاء، فجنوبهم تبتعد عن الفرش والمراقد فمع قيام الليل ينفقون بعض أموالهم (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (من) للتبعيض ومعناه: أن من قام في وسط الليل وترك نومه ولذته وآثر على ذلك ما يرجو من ربه فجزاؤه ما في الآية من قوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فاستشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على فضيلة قيام الليل، ثم قال (أَلاَ أُخبِرُكَ بِرَأَسِ الأَمرِ، وَعَمودِهِ، وذِروَةِ سِنَامِهِ) ثلاثة أشياء، قُلتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ (رَأَسُ الأَمرِ الإِسلام) أمر الإنسان الذي من أجله خُلِقَ، رأسه الإسلام، أي أن يسلم لله تعالى ظاهراً وباطناً بقلبه وجوارحه

قوله صلى الله عليه وسلم (وَعَمودِهِ الصلاة) أي عمود الإسلام الصلوات الخمس، وعمود الخيمة الذي تقوم عليه، وإذا أزيل سقطت

قوله صلى الله عليه وسلم (وَذِروَةِ سِنَامِهِ الجِهَاد في سَبيلِ الله) ذكر الجهاد أنه ذروة السنام، لأن الذروة أعلى شيء، وبالجهاد يعلو الإسلام، وقد بين المصطفى الجهاد بقوله (مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ) أخرجه البخاري ومسلم

ثم قال (أَلاَ أُخبِرُكَ بِمَلاك ذَلكَ كُله) أي ما تملك به كل هذا، (قُلتُ: بَلَى يَا رَسُول الله، فَأَخذ بِلِسانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَليكَ هَذ) أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال (كُفَّ عَليكَ هَذا) أي لا تطلقه في القيل والقال

قال معاذ (قُلتُ: يَا نَبيَّ الله وَإِنَّا لَمؤاخِذونَ بِما نَتَكَلّم بِه) الجملة خبرية لكنها استفهامية، يعني أن معاذاً رضي الله عنه تعجب كيف يؤاخذ الإنسان بما يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم حثاً على أن يفهم ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ) أي فقدتك، وهذه الكلمة يقولها العرب للإغراء والحث، ولا يقصدون بها المعنى الظاهر، وهو أن تفقده أمه

قوله صلى الله عليه وسلم (وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ عَلى وجُوهِهم، أَو قَالَ: عَلَى منَاخِرهِم) هذا شك من الراوي (إِلا حَصائدُ أَلسِنَتِهم) أي ما يحصدون بألسنتهم من الأقوال
لما قال هذا الكلام اقتنع معاذ رضي الله عنه لأن اللسان قد يقول الشرك، وقد يقول الكفر، وقد يقول الفحشاء، إذ في حديث آخر (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) رواه البخاري

من فوائد الحديث

أولاً: حرص الصحابة على العلم، ليطبقوه لا ما يفعله البعض لمجرد العلم

ثانياً: علو همة معاذ بن جبل حيث لم يسأل عن أمور الدنيا، بل عن أمور الآخرة

ثالثاً: إثبات الجنة والنار، والإيمان بهما أحد أركان الإيمان الستة

رابعاً: أن العمل سبب دخول الجنة ويباعد عن النار، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ) فالباء هنا للسببية وليس للعوض في قوله بعمله

خامساً: أن الصوم جنة، أي وقاية من النار ومن لم يكن صومه جنة فإنه ناقص ولهذا يحرم ارتكاب المعصية في حال الصوم لكن المعاصي لا تفسد الصوم مثل الغيبة وغيرها غير أنها تنقص ثوابه وهو قول جمهور العلماء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) أخرجه البخاري، مراده أن يبين الحكمة من الصوم، لا أن يبين فساد الصوم بقول الزور والعمل بالزور والجهل

سادساً: الحث على الصدقة (الصدقة تطفئ الخطيئة) فإذا كثرت خطاياك أكثر الصدقة

سابعاً: أن الخطيئة فيها شيء من الحرارة لأنه يعذب عليها الإنسان بالنار، والصدقة فيها شيء من البرودة، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالماء إذ أنه يطفىء النار

ثامناً: الحث على صلاة الليل، وبيان أنها تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار

تاسعاً: فضيلة أولئك القوم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يشتغلون بالصلاة يدعون ربهم خوفاً وطمعاً

عاشراً: ينبغي للإنسان أن يكون عند دعوة الله خائفاً راجياً، لقوله تعالى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) قال بعض أهل العلم في حال فعل الطاعة يغلب جانب الرجاء، وفي حال الهم بالمعصية يغلب جانب الخوف

الحادية عشرة: فضيلة الإنفاق مما رزق الله العبد لقوله (ومما رزقناهم ينفقون) والمراد بالرزق في الآية: الرزق الطيب لا أن يسرق ثم يتصدق به فلا مدح له

الثانية عشرة: الحذر من إطلاق اللسان وما أكثر ما يقول الإنسان كلاماً ثم يندم عليه قال ابن مسعود ( ما رأيت شيئاً يحتاج إلى طول سجن من لسان) فالكلمة كالرصاصة تخرج من البندق لا يمكن ردها لكن ما دامت في قلبك يمكنك أن تتحكم فيها

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

1437/6/10 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر