الدرس التاسع والأربعون: الحديث 39 رفع الحرج في الإٍسلام

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 22 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 2075 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال : إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما

وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم والدارقطني وقال ابن رجب الحنبلي عن سند الدارقطني: وهذا اسناد صحيح في ظاهر الأمر ورواته كلهم محتج بهم في الصحيحين (جامع العلوم والحكم)، وقال ابن حجر الهيتمي في شرحه على الأربعين فقد روي مرفوعاً من وجوه أخر يفيد مجموعها أنه حسن.

والنووي رحمه الله في هذا الكتاب يتساهل كثيراً فيورد أحاديث ضعيفة وربما يحسنها لأنه من الحفاظ وابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم يتعقبه كثيراً والغالب أن ما يذكره من الأحاديث الضعيفة في هذا الكتاب له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن، يقول المؤلف رحمه الله رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما، أي من هو دونهما أو مثلهما لا من هو أعلى منهم وهم البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، والذي أخرجه غيرهم هم ابن حبان والحاكم والدارقطني وأشرت إليهم أعلاه

الراوي: ابن ماجه

نسب الإمام ابن ماجه وموطنه

هو الإمام الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الربعي القَزْوِينِيُّ، وُلد بقزوين سنة تسعٍ ومئتين من الهجرة. قال ابن خَلِّكان: ماجه بفتح الميم والجيم وبينهما ألف، وفي الآخر هاء ساكنة، نشأ ابن ماجه في جو علمي، ومن ثَمَّ شبَّ محبًّا للعلم الشرعي عمومًا، وعلم الحديث خصوصًا؛ فحفظ القرآن الكريم، وتردد على حلقات المحدثين التي امتلأت بها مساجد قزوين، حتى حصَّل قدرًا كبيرًا من الحديث، رحل لطلب العلم إلى خراسان، والبصرة والكوفة، وبغداد ودمشق، ومكة والمدينة، ومصر، وغيرها من الأمصار، فكان له شيوخ في كل قطر ذهب إليه فكان من شيوخه علي بن محمد الطنافسي، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو تلميذ البخاري، وبعد رحلة شاقة استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا عاد ابن ماجه إلى قزوين، منصرفًا إلى التأليف والتصنيف، ورواية الحديث، له جمع من التلاميذ، لم يخلد الزمان من كتبه غير كتابه (سنن ابن ماجه) أحد الصحاح الستة؛ له تفسير في القرآن، والتاريخ أشار إليهما ابن كثير

كتابه سنن ابن ماجه يضم أربعة آلاف وثلاثمائة وواحدًا وأربعين حديثًا، به أحاديث ضعيفة جمعها الألباني في مجلد واحد

شرح سننه عدد من المحدثين، توفي ابن ماجه سنة ثلاث وسبعين ومئتين من الهجرة وله من العمر أربع وستون سنة رحمه الله

أهمية الحديث

قال النووي رحمه الله تعالى في شرح الأربعين: هذا الحديث اشتمل على فوائد وأمور مهمة لو جمعت بلغت مصنفا لا يحتمله هذا الكتاب، وقال ابن حجر الهيتمي: هو عام النفع لوقوع الثلاثة في سائر أبواب الفقه عظيم الوقع يصلح أن يسمى نصف الشريعة، لأنَّ فعلَ الإنسانِ الشَّاملَ لقولِهِ: إمَّا أن يصدرَ عن قصدٍ واختيارٍ وهو العمدُ مع الذِّكْرِ اختيارًا أوْ لا عن قصدٍ واختيارٍ وهو الخطأُ والنِّسيانُ والإكراهُ، وقد عُلِمَ مِن هذا الحديثِ صريحًا، أنَّ هذا القسمَ معفوٌّ عنه، ومفهومًا أنَّ الأوَّلَ مؤاخَذٌ بهِ، فهو نصفُ الشَّريعةِ باعتبارِ منطوقِهِ، وكلُّهَا باعتبارِهِ مع مفهومِهِ، أي باعتبار منطوقه مع مفهومه والمنطوق ما يفهم من اللفظ بصيغته والمفهوم ما يفهم من النص بدلالته

الشرح

قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِيْ) تجاوز عفا وهو هنا بمعنى ترك (لي) لأجلي

قوله صلى الله عليه وسلم (عَنْ أُمَّتِيْ) أمة الإجابة وهي كل من آمن به صلى الله عليه وسلم واستجاب لدعوته لا أمة الدعوة الغير مستجيبة
الخطأ: أن يرتكب الإنسان العمل عن غير عمد
النسيان: ضد الذكر وهو ذهول القلب عن شيء معلوم من قبل
الاستكراه: أن يكرهه شخص على عمل محرم ولا يستطيع دفعه، أي: الإلزام والإجبار
وهذه الأعذار الثلاثة شهد لها القرآن الكريم
فقال تعالى عن الخطأ والنسيان (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) البقرة: الآية286، وقال عزّ وجل (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الأحزاب: الآية 5، وقال الله عن الإكراه (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل: الآية 106، فرفع الله عزّ وجل حكم الكفر عن المكره، وما دونه من المعاصي من باب أولى، إذا القرآن يشهد لهذا الحديث رغم ما قيل عن ضعفه

فوائد الحديث

أولاً: سعة رحمة الله عزّ وجل ولطفه بعباده حيث رفع عنهم الإثم إذا صدرت منهم المعصية على هذه الوجوه الثلاثة، وهي النسيان والخطأ والإكراه، ولا ذم في الدنيا

ثانياً: اقتضت حكمة الله عز وجل أن لا يؤاخذ فرداً من هذه الأمة إلا إذا تعمد العصيان، وقصد قلبه المخالفة وترك الامتثال، عن رغبة وطواعية، قال ابن حجر: إن العفو عن ذلك أي عن إثم الخطأ والنسيان والإكراه هو مقتضى الحكمة والنظر

ثالثاً: المتجاوَزُ عنه الإثم، لا كل ما يترتب عليه من الأحكام، وهنا بعض المسائل

المسألة الأولى: رجل تكلّم في الصلاة يظن أن هذا الكلام جائز، فلا تبطل صلاته لأنه جاهل مخطئ ارتكب الإثم عن غير قصد، وهذا فيه نص خاص وهو: أن معاوية بن الحكم رضي الله عنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فسمع عاطساً عطس فحمد الله، فقال له معاوية: يرحمك الله، فوجهه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة إلى أن الصَّلاةَ لاَ يَصْلُحُ فِيْهَا شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، والحديث في صحيح مسلم، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ولو كانت واجبة عليه لأمره بها

المسألة الثانية: رجل أكره على الأكل والشرب في نهار رمضان فأكل وشرب، فصومه صحيح بشرط أن يكون المُكرِه أقوى من المُكرَه، مثل رجل أجبر زوجته وجامعها في نهار رمضان فصومها صحيح ولا إثم عليها بشرط أن تكون عاجزة عن المقاومة أو الهروب

المسألة الثالثة: صائم أكل يظن الشمس غربت ثم تبيّن أنها لم تغرب، يمسك وصومه صحيح، فقد روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنهم أفطروا في يوم غيمٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس، رواه البخاري، ولم يأمرهم بالقضاء حين أفطروا ولو كان القضاء واجباً عليهم لأمرهم

رابعاً: من جامع زوجته في نهار رمضان وهو يعلم حرمة ذلك لكنه لا يعلم أن عليه كفارة، فتلزمه الكفارة، وهي عتق رقبة فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ويعادل ذلك تسعين كيلو من الأرز أو غيره من قوت البلد، وقد أتى رجل روجته في نهار رمضان وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأوجب عليه الكفارة والحديث في صحيح البخاري

خامساً: من زنا وهو يقيم بين المسلمين وهو لا يدري أنه حرام، فيقام عليه الحد إذ لا يعذر بجهله وهو يقيم بين ظهرانيهم، إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام ويعيش في غير بلاد المسلمين فيعذر في ذلك ولا حد عليه ولا إثم

سادساً: من زنا وهو محصن ولا يعلم أن المحصن حده الرجم فإنه يرجم إذ أن الجهل بما يترتب على الفعل ليس بعذر

سابعاً: لا يسقط الضمان في حق المخلوق وإن سقط الإثم لأن حقوق الله بالمسامحة وحقوق الخلق بالمشاحة مثال ذلك: رجل أُكره على قتل إنسان وقال له المُكره إما أن تقتل فلاناً أو أقتلك والمُكره يقدر أن يقتل المكُرَه فقتل ذلك الإنسان عندها القاتل المُكرَه يُقتل لأن حق الآدمي لا يعذر فيه بالإكراه فلا يجوز له أن يبقى نفسه على حساب غيره

ثامناً: هذا الحديث عام في كل حق لله عزّ وجل من المحظورات، مثل محظورات الإحرام غطى رأسه وهو محرم ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه

تاسعاً: المأمورات لا تسقط بالجهل لكن يسقط الإثم، مثل: إنسان صلى وهو آكل من لحم الإبل يعتقد أنه لا ينقض الوضوء فيعيد الوضوء والصلاة وكذا النسيان لا بد من أدائها لقوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) أخرجه البخاري

عاشراً: الجاهل الذي ليس عنده من يسأله إلا جاهل مثله فأفتاه عن جهل فيعذر بجهله مثل: فتاة في البادية بلغت سن البلوغ وعمرها إحدى عشرة سنة إذ حاضت في هذا السن فسألت أهلها وليس عندها غيرهم فقالوا لها سن البلوغ خمس عشرة سنة وبقيت أربع سنوات لم تصم فلا تلزمها بالقضاء لأنها جاهلة ولم تقصر إذ سألت أهلها فأجابوها بأنها لم تبلغ فلا حرج عليها في ترك الصلاة والصوم بسبب جهلها

الحادية عشرة: من ترك واجباً لجهله وهو متعلق بحقوق الآخرين فليزم بأدائه مثل الزكاة تركها يعتقد أنها لم تبلغ النصاب لجهله فلا يأثم لجهله لكنه ملزم بإخراجها لمستحقيها ولو كان تركه لأدائها عدة سنوات فنلزمه بإخراجها عن جميع السنوات الماضية

الثانية عشرة: من أكره على الزنا يقام عليه الحد لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار والإكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه فيلزم الحد

الثالثة عشرة: من استعمل في القتل بغير إرادته فلا شيء عليه، مثاله: جاء رجل قوي شديد وأخذ شخصاً بالغاً عاقلاً وأمسك به وضرب به إنساناً حتى مات المضروب فإن المضروب به لا يضمن لأنه ليس له تصرف فهو كالآلة فالضمان على الذي أمسكه وضرب به المقتول

نسأل الله أن نكون قد أصبنا فيما ذكرنا

وبالله التوفيق وعليه السداد

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

1437-8-22 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر