المستشفيات في السابق

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 18 ذو الحجة 1434هـ | عدد الزيارات: 1892 القسم: خطب الجمعة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما

أما بعد

من المبادئ التي قامت عليها حضارتنا، جمعها بين حاجة الجسم وحاجة الروح، واهتمامها بالعناية بالجسم، ومطالبه ضرورية لتحقيق سعادة الإنسان وإشراق روحه، ومن الكلمات المأثورات عن واضع أسس هذه الحضارة رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لجسدك عليك حقاً" رواه البخاي ومسلم، ومن الملاحظ في عبادات الإسلام تحقيقها أهم غرض من أغراض علم الطب وهو حفظ الصحة

فالصلاة والصيام والحج وما تتطلبه هذه العبادات من شروط وأركان وأعمال، كلها تحفظ للجسم صحته ونشاطه وقوته، وإذا أضفنا إلى ذلك مقاومة الإسلام للأمراض وانتشارها، وترغيبه في طلب العلاج المكافح لها، علمـت أية أسس قوية قام عليها بناء حضارتنا في ميـدان الطـب، وتخريج الأطباء الذين لا تزال الإنسانية تفخر بأياديهم على العلم عامة والطب خاصة

فعرف العرب مدرسة جنديسابور الطبية التي أنشأها كسرى في منتصف القرن السادس الميلادي وتخرج منها بعض أطبائهم، كالحارث بن كلدة الذي عاش في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يشير على أصحابه بالتداوي عنده حين تنتابهم الأمراض

وفي عهد الوليد بن عبد الملك أنشئ أول مستشفى في الإسلام، وهو خاص بالمجذومين، وجعل فيه الأطباء، وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبسهم لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق ثم تتابع إنشاء المشافي، وقد كانت تعرف باسم "البيمارستانات" أي دور المرضى

وكانت المستشفيات نوعين: نوعاً متنقلاً، ونوعاً ثابتاً، أما المتنقل فأول ما عُرف في الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة الخندق، إذ ضرب خيمة للجرحى فلما أصيب سعد بن معاذ في أكحله والأكحل عرق في الذراع يفصد قال صلى الله عليه وسلم : إجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب.رواه البخاري.، وهو أول مستشفى حربي متنقل في الإسلام، ثم توسع فيه الخلفاء والملوك من بعد، حتى أصبح المستشفى المتنقل مجهزاً بجميع ما يحتاجه المرضى، من علاج وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، وكان ينقل من قرية إلى قرية في الأماكن التي لم يكن فيها مستشفيات ثابتة

كتب الوزير عيسى بن علي الجراح إلى سنان بن ثابت وكان يتولى النظر على مستشفيات بغداد وغيرها وفكرت فيمن بالسواد أي القرى من أهله وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرض لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء فتقدم بإيفاد متطببين أي أطباء وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون السواد ويقيمون في كل صقع منه ما تدعو الحاجة إلى مقامهم ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره وقد بلغ بعض المستشفيات المتنقلة في أيام السلطان محمود السلجوقي حداً من الضخامة بحيث كان يحمل على أربعين جملاً

وأما المستشفيات الثابتة، فقد كانت كثيرة تفيض بها المدن والعواصم ولم تخل بلدة صغيرة في العالم الإسلامي يومئذ من مستشفى فأكثر، حتى إن قرطبة وحدها كان فيها خمسون مستشفى

وتنوعت المستشفيات، فهناك مستشفيات للجيش يقوم عليها أطباء مخصوصون، عدا عن أطباء الخليفة والقواد والأمراء، وهناك مستشفيات للمساجين، يطوف عليهم الأطباء في كل يوم فيعالجون مرضاهم بالأدوية اللازمة

وهناك محطات للإسعاف كانت تقام بالقرب من الجوامع والأماكن العامة التي يزدحم فيها الجمهور، ويقول المقريزي أن ابن طولون حين بنى جامعه الشهير في مصر عمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب "أي صيدلية أدوية" وفيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة، لمعالجة من يصابون بالأمراض من المصلين

وهناك المستشفيات العامة، التي كانت تفتح أبوابها لمعالجة الجمهور، وكانت تقسم إلى قسمين منفصلين بعضهما عن بعض: قسم للذكور، وقسم للإناث، وكل قسم فيه قاعات متعددة، كل واحدة منها لنوع من الأمراض، فمنها للأمراض الداخلية، ومنها للعيون، ومنها للجراحة، ومنها للكسور والتجبير، ومنها للأمراض العقلية، وقسم الأمراض الداخلية كان مقسماً إلى غرف أيضاً، فغُرف منها للحميّات، وغرف للإسهال، وغير ذلك، ولكل قسم أطباء عليهم رئيس، فرئيس للأمراض الباطنية، ورئيس للجراحين ولكل الأقسام رئيس عام يسمى ساعور وهو لقب لرئيس الأطباء في المستشفى وكان الأطباء يشتغلون وفي كل مستشفى عدد من الفراشين من الرجال والنساء والممرضين والمساعدين، ولهم رواتب معلومة وفي كل مستشفى صيدلية كانت تسمى "خزانة الشراب"

وفي كل مستشفى قاعة كبيرة للمحاضرات، يجلس فيه كبير الأطباء ومعه الأطباء والطلاب، وبجانبهم الآلات والكتب، فيقعد التلاميذ بين يدي معلمهم، بعد أن يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم، ثم تجري المباحث الطبية والمناقشات بين الأستاذ وتلاميذه، والقراءة في الكتب الطبية، وكثيراً ما كان الأستاذ يصطحب معه تلاميذه إلى داخل المستشفى ليقوم بإجراء الدروس العملية لطلابه على المرضى بحضورهم، كما يقع اليوم في المستشفيات الملحقة بكليات الطب

وكان لا يسمح للطبيب بالانفراد بالمعالجة حتى يؤدي امتحاناً أمام كبير أطباء الدولة، يتقدم إليه برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في معاناته

وقد اتفق في عام 319هـ في أيام الخليفة المقتدر أن بعض الأطباء أخطأ في علاج رجل فمات، فأمر الخليفة أن يمتحن جميع أطباء بغداد من جديد، فامتحنهم سنان بن ثابت كبير أطباء بغداد، فبلغ عددهم في بغداد وحدها 800 طبيب ونيفاً وستين طبيباً

ولا يفوتنا أن نذكر أنه كان يلحق بكل مستشفى مكتبة عامرة بكتب الطب وغيرها مما يحتاجه الأطباء وتلاميذهم، حتى قالوا إنه كان في مستشفى ابن طولون بالقاهرة خزانة كتب تحتوي على ما يزيد على مائة ألف مجلد في سائر العلوم

أما عن نظام دخول المستشفى والعلاج والأكل فأعرض عن ذكره حتى لا أطيل عليكم

ولا يفوتني أن أذكر لكم أنه إذا أصبح في دور النقاهة أُدخل القاعة المخصصة للناقهين، حتى إذا تم شفاؤه أُعطي بدلة من الثياب الجديدة، ومبلغاً من المال يكفيه إلى أن يصبح قادراً على العمل وكانت غرف المستشفى نظيفة تجري فيها المياه، وقاعاته مفروشة ولكل مستشفى مفتشون على النظافة، ومراقبون للقيود المالية

وكثيراً ما كان الخليفة أو الأمير يتفقد بنفسه المرضى، ويُشرف على حسن معاملتهم

هذا هو النظام السائد في جميع المستشفيات التي كانت قائمة في العالم الإسلامي، سواء في المغرب أم المشرق في مستشفيات بغداد ودمشق والقاهرة والقدس ومكة والمدينة والمغرب والأندلس

وذلك أيام الحضارة الإسلامية

هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا

أما بعد

عباد الله: حينما تحدثت عن المستشفيات في السابق فإن الإسلام قبل ذلك يحث على الإهتام بالصحة حتى لا نحتاج إلى المستشفيات فعن المقدام بن معدي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " . رواه الترمذي وصححه الألباني

فاهتموا عباد الله بصحتكم لتعينكم على طاعة ربكم

ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار.البقرة:201.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن

ملحوظة : ألقيت هذه الخطبة عام 1402هـ

1434-12-17هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي