الدرس الثالث والثلاثون : دعاء القنوت 2

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 3 ربيع الثاني 1434هـ | عدد الزيارات: 1623 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

قوله "وقني شر ما قضيت" ما قضاه الله عز وجل قد يكون خيراً وقد يكون شراً فما كان يلائم الإنسان وفطرته فإن ذلك خير وما كان لا يلائمه فذلك شر فالصحة والقوة والعلم والمال والولد الصالح وما أشبه ذلك خير والمرض والجهل والضعف والولد الطالح وما أشبه ذلك شر لأنه لا يلائم الإنسان

وقوله "ما قضيت" ما بمعنى الذي أي قضيته والمراد قضاؤه الذي هو مقضيه لأن قضاء الله هو فعله وإن كان شراً لكنه في الحقيقة خير لأنه لا يراد إلا لحكمة عظيمة فالمرض مثلاً قد لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة إلا إذا مرض وقد يحدث له المرض توبة ورجوعاً إلى الله ومعرفة لقدر نفسه وأنه ضعيف ومحتاج إلى الله عز وجل بخلاف ما لو بقي الإنسان صحيحاً معافى فإنه قد ينسى قدر هذه النعمة ويفتخر كما قال تعالى "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ*وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ" هود (9-10) فالحاصل أن قضاء الله عز وجل وإن كان فيه شر فإنه خير من وجه آخر فإن قال قائل كيف نجمع بين قوله قني شر ما قضيت وقوله صلى الله عليه وسلم "والشر ليس إليك" رواه مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فالجواب من ذلك أن الشر لا ينسب إليه تعالى لأن ما قضاه وإن كان شراً فهو خير بخلاف غيره فإن غير الله ربما يقض بالشر لشر محض فربما يعتدي إنسان على مالك أو بدنك أو أهلك لقصد الشر والإضرار بك لا لقصد مصلحتك وحينئذ يكون فعله شراً محضاً وفي قوله " ما قضيت إثبات القضاء لله وقضاء الله شرعي وقدري فالشرعي مثل قوله تعالى "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" الإسراء (23) والقدري مثل قوله تعالى "وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا" الإسراء (4) والفرق بينهما من وجهين

أولاً : أن القضاء الكوني لا بد من وقوعه أما القضاء الشرعي فقد يقع من المقضي عليه وقد لا يقع

ثانياً : أن القضاء الشرعي لا يكون إلا فيما أحب سواء أحب فعله أو أحب تركه

أما القضاء الكوني فيكون فيما أحب وفيما لم يحب

قوله "إنك تقضي ولا يقضي عليك" فالله سبحانه يقضي بما أراد ولا أحد يقضي على الله ويحكم عليه قال تعالى "وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" غافر (20)

قوله "إنه لا يذل من واليت" أي ولاية خاصة

قوله "ولا يعز من عاديت" أي لا يغلب من عاديته بل هو ذليل لأن من والاه الله فهو منصور كما قال تعالى "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" غافر (51)

وقال تعالى "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" الحج (40-41)

وأما من عاداه الله فهو ذليل لأن الله إذا نصر أوليائه فعلى أعدائه إذاً فالعز للأولياء والذل للأعداء فإن قال قائل هل هذا على عمومه لا يذل من والاه الله ولا يعز من عاداه الجواب : نقول ليس على عمومه فإن الذل قد يعرض لبعض المؤمنين والعز قد يعرض لبعض المشركين ولكنه ليس على سبيل الإدالة المطلقة الدائمة المستمرة فالذي وقع في أحد للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا شك أن فيه عزاً للمشركين ولهذا افتخروا به فقالوا يوم بيوم بدر والحرب سجال ولا شك أنه أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجراح والضعف ما لم يسبق من قبل ولكن هذا شيء عارض ليس عزاً دائما ًمطرداً للمشركين وليس ذلاً للمؤمنين على وجه الدوام والاستمرار وهذا فيه مصالح عظيمة كثيرة ذكرها الله تعالى في سورة آل عمران واستوعب الكلام عليها ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فقه هذه الغزوة إذاً فقوله "لا يذل من واليت" أي لا يذل ذلاً دائماً ولا يعز عزاً دائماً فهو عام أريد به الخصوص

قوله "تباركت ربنا وتعاليت" التقدير تباركت يا ربنا ومعنى التبارك في الله عز وجل أنه سبحانه منزل البركة وأن بذكره تحصل البركة وباسمه تحصل البركة

وقوله "ربنا" أي يا ربنا وحذفت ياء النداء لسببين

الأول : لكثرة الاستعمال

الثاني : للتبرك بالبداءة باسم الله عز وجل

قوله "تعاليت" من التعالي وهو العلو وزيدت التاء للمبالغة في علوه وعلو الله ينقسم إلى قسمين علو الذات وعلو الصفة

أما علو الذات فمعناه أن الله فوق كل شيء

أما علو الصفة فمعناه أن الله موصوف بكل الصفات العليا

ودليل علو الذات قوله تعالى "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ" الأنعام (18) وقوله "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" الأعلى (1) وقوله "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ" المعارج (4) وقوله "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" فاطر (10) وقوله "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ" السجدة (5) أما الدليل من السنة من القول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى"صححه الألباني عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ودليل علو الصفة قوله تعالى "وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ" النحل (60)

قوله "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" قوله أعوذ برضاك من سخطك هذا من باب التوسل برضاء الله أن يعيذك من سخطه فأنت الآن استجرت من الشيء بضده فجعلت الرضاء وسيلة تتخلص به من السخط

قوله "وبعفوك من عقوبتك" والمعافاة هي أن يعافيك الله من كل بلية في الدين أو في الدنيا وضد المعافاة العقوبة

والعقوبة لا تكون إلا بذنب وإذا استعذت بمعافاة الله من عقوبته فإنك تستعيذ من ذنوبك حتى يعفو الله عنك إما بمجرد فضله وإما بالهداية إلى أسباب التوبة

قوله "وبك منك" لا يمكن أن تستعيذ من الله إلا بالله إذ لا أحد يعيذك من الله إلا الله فهو الذي يعيذني مما أراد بي من سوء ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد يريد بك سوء ولكن إذا استعذت به منه أعاذك وفي هذا غاية اللجوء إلى الله وأن الإنسان يقر بقلبه ولسانه أنه لا مرجع له إلا ربه سبحانه وتعالى

قوله "لا نحصي ثناء عليك" أي لا ندركه ولا نبلغه ولا نصل إليه والثناء هو تكرار الوصف بالكمال ودليل ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي "فإذا قالَ العَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ قالَ اللَّهُ تَعالَى حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قالَ اللَّهُ تَعالَى أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه فلا يمكن أن تحصى الثناء على الله أبداً ولو بقيت أبد الآبدين وذلك لأن أفعال الله غير محصورة وكل فعل من أفعال الله فهو كمال ، وأقوال الله غير محصورة وكل قول من أقوال الله فهو كمال وما يدفع عن عباده فهو غير محصور فالثناء على الله لا يمكن أن يصل الإنسان منه إلى غاية ما يجب لله من الثناء مهما بلغ من الثناء على الله وغاية الإنسان أن يعترف بالنقص والتقصير فيقول "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" أي أنت ياربنا كما أثنيت على نفسك أما نحن فلا نستطيع أن نحصي الثناء عليك وفي هذا من الإقرار بكمال صفات الله ما هو ظاهر معلوم

قوله "اللهم صل على محمد" أي يختم الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك من أسباب الإجابة ولو زاد إنسان على ذلك فلا بأس لأن المقام مقام دعاء ولو فرض أن الإنسان لا يستطيع أن يدعو بهذا الدعاء فله أن يدعو بما شاء مما يحضره وصلاة الله على النبي صلى الله عليه و سلم الثناء عليه في الملأ الأعلى أي أن الله يبين صفاته الكاملة عند الملائكة

وقوله "وعلى آل محمد" آله أتباعه على دينه "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" غافر (46) أي أتباعه على دينه

وإن قيل "وعلى آله وأتباعه" صار المراد بالآل المؤمنين من أهل بيته وأما غير المؤمنين فليسوا من آله

قوله "ويمسح وجهه بيديه" والصحيح ألا يمسح بها وجهه حيث لا أًصل لها

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1434/4/3 هــ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر