قصة موسى عليه السلام 3

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 27 ذو القعدة 1437هـ | عدد الزيارات: 1636 القسم: قصص الأنبياء -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم متابعة لملكهم فرعون ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام؛ وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول، وهم مع ذلك لا يرعون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون

ولم يؤمن منهم إلا القليل قال ابن عباس: ثلاثة، وهم امرأة فرعون ولا علم لأهل الكتاب بخبرها، ومؤمن آل فرعون الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم، والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصى المدينة، (قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا (وإن فرعون لعال في الأرض) أي جبار عنيد مشتغل بغير الحق (وإنه لمن المسرفين) أي في جميع أموره وشئونه وأحواله، ولكنه جرثومة قد حان انجعافها وثمرة خبيثة قد آن قطافها، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها

وعند ذلك قال موسى: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) فأمرهم بالتوكل على الله والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة من الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض، وقوله (واجعلوا بيوتكم قبلة) معناه كثرة الصلاة فيها قاله مجاهد وأبو مالك وابراهيم النخْعي والربيع والضحاك وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وغيرهم

فمعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) وكان رسول الله إذا حزبه أمر صلى، (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضبا لله عليه لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي، فقال: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه) يعني قومه من القبط ومن كان على ملته ودان بدينه (زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا فيحسب الجاهل أنهم على شيء لكن هذه الأموال وهذه الزينة من اللباس والمراكب الحسنة الهنية والدور الأنيقة والقصور المبنية والمآكل الشهية والمناظر البهية والملك العزيز والتمكين والجاه العريض في الدنيا لا الدين، (ربنا اطمس على أموالهم) قال أبو العالية والربيع بن أنس والضحاك: اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة وقال أيضا: صارت أموالهم كلها حجارة ذُكر ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له: قم ايتني بكيس فجاءه بكيس فاذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة رواه ابن أبي حاتم

وقوله: (واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) قال ابن عباس: أي اطبع عليها وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه

فاستجاب الله تعالى لها وحققها وتقبلها كما استجاب لنوح في قومه حيث قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) ولهذا قال تعالى مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملئه وأمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له، وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم

وأمرهم الله تعالى - فيما ذكره أهل الكتاب - أن يستعيروا حليا منهم فأعاروهم شيئا كثيرا، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده لتلحقهم ويمحقهم

قال الله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون، فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم)، قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفوا أثرهم، كان في جيش كثيف عَرَمْرَم، حتى قيل كان في خيوله مائه ألف فحل أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم وقيل: إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائه ألف مقاتل غير الذرية

والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجاولة والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: (إنا لمدركون) وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر، فليس لهم طريق ولا محيد الا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم، وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده وهم منه في غاية الخوف والذعر لما قاسوا في سلطانه من الاهانة والمكر

فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه، فقال لهم الرسول الصادق المصدوق (كلا إن معي ربي سيهدين) وكان في الساقة فتقدم إلى المقدمة ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ويتزايد زبد أجاجه وهو يقول: هاهنا أمرت، ومعه أخوه هارون ويوشع بن نون وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار، وقد أوحى الله اليه وجعله نبيا بعد موسى وهارون عليهما السلام، ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون وهم وقوف وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف ويقال: إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر هل يمكن سلوكه فلا يمكن، ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله أههنا أمرت فيقول نعم

فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم وحنقه وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير رب العرش الكريم إلى موسى الكليم (أن اضرب بعصاك البحر) فلما ضربه يقال إنه قال له انفلق باذن الله

قال الله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) ويقال: إنه انفلق اثنتي عشرة طريقا لكل سبط طريق يسيرون فيه، وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء: كن فيكون

قال الله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى)، والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين فلما جازوه وجاوزوه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه

فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال كما قال وهو الصادق في المقال: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم، أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين، وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين، وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون، وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون، فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون، فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون، واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون، كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوما آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين، ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين، ولقد اخترناهم على علم على العالمين، وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)، فقوله تعالى (واترك البحر رهوا) أي ساكنا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الاحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم

فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم ولم يتقدم، وندم على نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلدا وعاملهم معاملة العدا، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه وعلى باطله تابعوه: أنظروا كيف أنحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وبلدي؟ وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو، وهيهات، يقدم تارة ويحجم تارات!

فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله فحمحم إليها وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه، فاقتحم البحر واستبق الجواد، وقد أجاد فبادر مسرعا هذا، وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان فلما ينج منهم إنسان

قال الله تعالى: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلما يخلص منهم أحد آية عظيمة، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة: وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة

وقال تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، ءآلأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون)، يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة وترفعه أخرى، وبنوا إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم، ليكون أقر لأعين بني إسرائيل وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به وباشر سكرات الموت أناب حينئذ، وتاب وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها كما قال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)، وقال تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)، وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي حين لا ينفعهم ذلك ويكون حسرة عليهم، وقد قال تعالى لهما، أي لموسى وهارون حين دعوا بهذا: (قد أجيبت دعوتكما) فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هارون عليهما السلام

وقوله تعالى: (ءآلأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) استفهام إنكار ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك لأنه - والله أعلم - لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) قال الله (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) وقوله (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية)، قال ابن عباس وغير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون حتى قال بعضهم إنه لا يموت، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع قيل على وجه الماء وقيل على نجوة من الأرض وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه ويعلموا قدرة الله عليه ولهذا قال: (فاليوم ننجيك ببدنك) أي مصاحبا درعك المعروفة بك (لتكون) أي أنت آية (لمن خلفك) أي من بني إسرائيل ودليلا على قدرة الله الذي أهلكه، وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء

كما روى الامام البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون؛ قال النبي لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا

وفيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون

قال الله تعالى: (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين، وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون، وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين، وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم وكيف سلبهم عزهم ومالهم وأنفسهم وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم كما قال: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) وقال: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، وقال هاهنا: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)، أي أهلك ذلك جميعه وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا، وهلك المَلك وحاشيته وأمراؤه وجنوده، ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا

فذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر: أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم، واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومنا هذا

وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين، فحملوا العجين قبل اختماره، وحملوا الأزواد في الأردية وألقوها على عواتقهم، وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا، فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل سوى الذراري بما معهم من الأنعام، وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة هذا نص كتابهم وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ، وهذا العيد عيد الفسخ ولهم عيد الفطير، وعيد الحمل، وهو أول السنة، وهذه الأعياد الثلاثة آكد أعيادهم منصوص عليها في كتابهم

ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، وخرجوا على طريق بحر سوف وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم، فيه عامود نور، وبالليل أمامهم عامود نار فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر، فتنزلوا هنالك، وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين وهم هنالك حلول على شاطئ اليم فقلق كثير من بني إسرائيل حتى قال قائلهم: كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية فقال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة: لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا

قالوا: وأمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، وأن يقْسمه، ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس وصار الماء من هاهنا وهاهنا كالجبلين، وصار وسطه يبسا لأن الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم، فجاز بنو إسرائيل البحر، وأتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه، فرجع الماء كما كان عليهم

قالوا: ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب وقالوا: (نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود) وهو تسبيح طويل

قالوا: وأخذت مريم النبية أخت هارون دفا بيدها وخرج النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول، وجعلت مريم ترتل لهن وتقول: سبحان الرب القهار، الذي قهر الخيول وركبانها إلقاء في البحر

وقولهم "النبية" كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة، ومن بيت الإمرة أميرة، وان لم تكن مباشرة شيئا من ذلك فكذا هذه استعارة لها لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها

وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الأعياد عندهم دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد، وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة يضربان بالدف في أيام منى، ورسول الله مضطجع مولي ظهره إليهم، ووجهه إلى الحائط، فلما دخل أبو بكر زجرهن وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال: "دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا" وهكذا يشرع عندنا في الأعراس

وذكروا أنهم لما جازوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء، فتكلم من تكلم منهم، بسبب ذلك، فوجدوا ماء زعافا أجاجا لم يستطيعوا شربه، فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه فحلا وساغ شربه، وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ووصاه وصايا كثيرة

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) قالوا: هذا الجهل والضلال، قد عاينوا من آيات الله وقدرته ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذو الجلال والإكرام، وذلك أنه مروا على قوم يعبدون أصناما، قيل: كانت على صور البقر، فكأنهم سألوهم: لم يعبدونها؟ فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ويسترزقون بها عند الضرورات، فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك، فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة، فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)، ثم ذكرهم نعمة الله عليهم في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع والرسول الذي بين أظهرهم، وما أحسن به إليهم، وما امتن به عليهم، من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد، وإهلاكه إياه وهم ينظرون، وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملؤه يجمعونه من الأموال والسعادة، وما كانوا يعرشون، وبين لهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده لا شريك له لأنه الخالق الرازق القهار، وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال بل هذا الضمير عائد على الجنس في قوله: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) أي قال بعضهم كما في قوله (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا، وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا) فالذين زعموا هذا بعض الناس لا كلهم

وقد روى الامام أحمد عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي : "الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم" ورواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح

وقد روى ابن جرير عن أبي واقد الليثي، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله إلى حنين قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا يا رسول الله؛ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)، والمقصود أن موسى عليه السلام لما انفصل من بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم

فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس، فإن الله كتبه لهم ووعدهم إياه على لسان موسى الكليم الجليل، فأبوا ونكلوا عن الجهاد، فسلط الله عليهم الخوف وألقاهم في التيه يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيئون في مدة من السنين طويلة هي من العدد أربعون كما قال الله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين)، يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم بالنعم الدينية والدنيوية، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ومقاتلة أعدائه فقال: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) أي تنكصوا على أعقابكم وتنكلوا عن قتال أعدائكم (فتنقلبوا خاسرين) أي فتخسروا بعد الربح وتنقصوا بعد الكمال

(قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) أي عتاة كفرة متمردين (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأسا وأكثر جمعا وأعظم جندا، وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ومذمومون على هذه الحالة من الذلة عن مصاولة الأعداء ومقاومة المردة الأشقياء

وقد ذمهم الله في نكولهم وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ومخالفتهم رسولهم، وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام ونهياهم عن الإحجام، ويقال: إنهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد، (قال رجلان من الذين يخافون) أي يخافون الله (أنعم الله عليهما) أي بالاسلام والايمان والطاعة والشجاعة (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)أي إذا توكلتم على الله واستعنتم به ولجأتم إليه نصركم على عدوكم وأيدكم عليهم وأظفركم بهم، (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) فصمم ملاؤهم على النكول عن الجهاد ووقع أمر عظيم ووهن كبير

قال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) قال ابن عباس: "اقض بيني وبينهم" (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض يسيرون إلى غير مقصد ليلا ونهارا وصباحا ومساء

لكن أصحاب محمد يوم بدر لم يقولوا له كما قال قوم موسى، بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن وتكلم غيره من المهاجرين

ثم جعل يقول: أشيروا علي، حتى قال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ذلك

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى رسول الله وهو يدعو على المشركين قال: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، ولكننا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله يشرق لذلك وسر بذلك رواه البخاري

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

27-11-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر