قصة موسى عليه السلام 5

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 1 ذو الحجة 1437هـ | عدد الزيارات: 1626 القسم: قصص الأنبياء -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

قصة بقرة بني إسرائيل

قال الله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون، قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون، قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون، وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي، وغير واحد من السلف: كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخا كبيرا، وله بنو أخ، وكانوا يتمنون موته ليرثوه، فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه في مجمع الطرق

فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم، فقالوا: مالكم تختصمون ولا تأتون نبي الله، فجاء ابن أخيه فشكا أمر عمه إلى رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم فقال موسى عليه السلام: أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به" فلم يكن عند أحد منهم علم منه وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عز وجل

فسأل ربه عز وجل في ذلك، فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة فقال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) يعنون نحن نسألك عن أمر هذا القتيل، وأنت تقول لنا هذا؟ (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أي أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي

والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان، وهي الوسط النصف بين الفارض وهي الكبيرة، والبكر وهي الصغيرة قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها، فأمروا بصفراء فاقع لونها، أي مشرب بحمرة، تسر الناظرين، وهذا اللون عزيز ثم شددوا أيضا (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون)، (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) وهذه الصفات أضيق مما تقدم؛ حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول، وهي المذللة بالحراثة وسقي الأرض بالساقية، مسلمة، وهي الصحيحة التي لا عيب فيها، فلما حددها بهذه الصفات، وحصرها بهذه النعوت والأوصاف (قالوا الآن جئت بالحق) ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه، فطلبوها منه فأبى عليهم، فأرغبوه في ثمنها حتى أعطوه، فيما ذكره السدي، بوزنها ذهبا فأبى عليهم، حتى أعطوه بوزنها عشر مرات، فباعها عليهم

فأمرهم نبي الله موسى بذبحها (فذبحوها وما كادوا يفعلون) أي وهم يترددون في أمرها ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها قيل بلحم فخذها، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى، فقام وهو يشخب أوداجُه، فسأله نبي الله موسى من قتلك؟ قال: قتلني ابن أخي ثم عاد ميتا كما كان

قال الله تعالى: (كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) أي كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له، كذلك أمره في سائر الموتى إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة كما قال: ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة

قصة موسى والخضر عليهما السلام

قال الله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا، فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا، فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا، قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما، قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا، قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها، قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا، فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا، أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) روى البخاري عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسُئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما

حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) قال: ولم يجد موسى النَصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا) قال: فكان للحوت سَربا ولموسى ولفتاه عجبا فقال له موسى: (ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصص( قال: فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأَنى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا (إنك لن تستطيع معي صبرا) يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه فقال موسى: (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) فقال له الخضر: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا) يمشيان على ساحر البحر، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها (لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الأولى من موسى نسيانا قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر

ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: (أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) قال: وهذه أشد من الأولى (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا)، (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) قال: مائل فقام الخضر (فأقامه) بيده فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك) إلى قوله: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقُص اللهُ علينا من خبرهما

قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وكان يقرأ: "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين

ثم رواه البخاري أيضا عن قتيبة عن سفيان بن عيينة بإسناده نحوه، (حتى إذا ركبا في السفينة) وجد معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح قال فقلنا لسعيد: خضر؟ قال: نعم لا نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها وتدا "قال" موسى: (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا) وقال مجاهد: منكرا (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) كانت الأولى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا (قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا، فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله) قال يعلى قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين (قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس) لم تعمل بالخبيث وكان ابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاما زكيا، (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) قال سعيد بيده هكذا، ورفع يده فاستقام قال يعلى: حسبت أن سعيدا قال: فمسحه بيده فاستقام (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) قال سعيد: أجرا نأكله، (وكان وراءهم) وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد أنه "هدد من بدد" والغلام المقتول اسمه يزعمون "جيسور" (ملك يأخذ كل سفينة غصبا) فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها (فكان أبواه مؤمنين) وكان كافرا (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) لقوله: (أقتلت نفسا زكية) (وأقرب رحما) هما بها أرحم منهما بالأول الذي قتله الخضر

وقوله: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) قال السهيلي: وهما أصرم وصريم ابنا كاشح (وكان تحته كنز لهما) علما، قاله ابن عباس والأشبه أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه علم روى البزار عن أبي ذر رفعه قال: "إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من الذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب! وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك؟ وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله

وهكذا روي عن الحسن البصري وعمر مولى غفرة وجعفر الصادق نحو هذا

وقوله: (وكان أبوهما صالحا)، قيل إنه كان الأب السابع وعلى كل تقدير: فيه دلالة على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته

وقد ذكرت اللجنة الدائمة بالمملكة برئاسة ابن باز على أن الخضر نبي لما ذكره الله تعالى في سورة الكهف من قصته مع موسى عليهما السلام فإن فيها أنه خرق سفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وقتل غلامًا لم يرتكب جريمة، وأقام جدارًا ليتيمين بلا أجر في قرية أبى أهلها إطعامهما، وأنكر موسى كل ذلك عليه فبين له السبب أخيرًا، ثم ختمت القصة بأن كل ذلك كان منه بوحي من الله وذلك فيما أخبر الله عنه من قوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا

قصة قارون مع موسى عليه السلام

قال الله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين، قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون، فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون، فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) قال ابن عباس قال: كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب وقتادة ومالك ابن دينار وابن جريج وزاد فقال: هو قارون بن يصهب بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث قال ابن جرير وهذا قول أكثر أهل العلم: أنه كان ابن عم موسى، وقال قتادة: وكان يسمى النور لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه

وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه؛ حتى إن مفاتحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد، وقد قيل إنها كانت من الجلود وإنها كانت تحمل على ستين بغلا، فالله أعلم

وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين: (لا تفرح) أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك، (إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) يقولون: لتكن همتك مصروفة لتحصل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي وتناول منها بمالك ما احل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال، (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك (ولا تبغ الفساد في الأرض) أي ولا تسيء إليهم ولا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم فيعاقبك ويسلبك ما وهبك، (إن الله لا يحب المفسدين) فما كان جوابه لقومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن (قال إنما أوتيته على علم عندي) يعني أنا لا أحتاج إلى استماع ما ذكرتم، ولا إلى ما إليه أشرتم، فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه، وأني أهل له، ولولا أني حبيب إليه وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني

قال الله تعالى ردا عليه فيما ذهب إليه: (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) أي قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا؛ فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا من كان أكثر مالا منه، ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له واعتنائنا به، كما قال تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا) وقال تعالى: (أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) قال الله تعالى: (فخرج على قومه في زينته) ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم؛ من ملابس ومراكب وخدم وحشم فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله، فلما سمع مقالتهم العلماء، ذوو الفهم الصحيح الزهاد الألباء، قالوا لهم: (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى قال الله تعالى: (ولا يلقاها إلا الصابرون) أي وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة، وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية، عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هدى الله قلبه وثبت فؤاده، وأيد لبه وحقق مراده

وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات

قال الله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)

لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها، وفخره على قومه بها قال: (فخسفنا به وبداره الأرض) كما روى البخاري من حديث الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة

وقوله تعالى: (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره كما قال: (فما له من قوة ولا ناصر) ولما حل به ما حل من الخسف وذهاب الأموال وخراب الدار وإهلاك النفس والأهل والعقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا: ( لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون) وقال قتادة: ويكأن بمعنى ألم تر أن وهذا قول حسن من حيث المعنى

ثم أخبر تعالى أن (الدار الآخرة) وهي دار القرار، وهي الدار التي يُغبط من أعطيها ويُعزى من حرمها إنما هي معدة (للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) فالعلو هو التكبر والفخر والأشر والبطر والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية، من أخذ أموال الناس وإفساد معايشهم، والإساءة إليهم وعدم النصح لهم

ثم قال تعالى: (والعاقبة للمتقين) وقصة قارون هذه قبل خروجهم من مصر، لقوله: (فخسفنا به وبداره الأرض) فإن الدار ظاهرة في البنيان

وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن، قال الله، (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود: (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" تفرد به أحمد رحمه الله

فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفاته

قال الله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) وقال تعالى: (قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) وتقدم في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأكون أول من يُفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور

وقد قدمنا أنه من رسول الله من باب الهضم والتواضع، وإلا فهو - صلوات الله وسلامه عليه - خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قطعا لا يحتمل النقيض

وقال تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى أن قال: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) روى الإمام أبو عبد الله البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدره وإما آفة وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وبرأه الله مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا فذلك قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) رواه البخاري ومسلم

قال بعض السلف: كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله، وطلب منه أن يكون معه وزيرا، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته وجعله نبيا، كما قال (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا يُبلغني أحد عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر

وفي الصحيحين عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة، فقال له جبريل: هذا موسى، فسلم عليه قال: "فسلمت عليه فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلما تجاوزت بكى قيل له ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي" فقد ذكر غير واحد من الحفاظ: أن الذي عليه الجادة: أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة - مر بموسى، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وأفئدة فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، ويخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة وقال الله تعالى هي خمس وهي خمسون أي بالمضاعفة، فجزى الله عنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خيرا، وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيرا

روى البخاري عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: عرضت علي الأمم ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل هذا موسى في قومه

حَجته عليه السلام إلى البيت العتيق

روى الإمام أحمد عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: "أي واد هذا" ؟ قالوا: وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية"، حتى أتى على ثنية هرشاء فقال: "أي ثنية هذه"؟ قالوا: هذه ثنية هرشاء قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء، عليه جبة من صوف، خِطام ناقته خُلبة" - قال هشيم: يعني ليفا - وهو يلبي أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند

وفاته عليه السلام

روى البخاري عن أبي هريرة قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه عز وجل، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن

قال: فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر

ولما كان مع قومه بالتيه وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها ولكن حال بينهم وبينها القدر، رمية بحجر

وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وشكر الله لكم، وجعلها في ميزان حسناتكم

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

02-12-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر