قصة موسى عليه السلام

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 21 ذو القعدة 1437هـ | عدد الزيارات: 2107 القسم: قصص الأنبياء -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال تعالى (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة مطولة وغير مطولة

قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (طسم، تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون، إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا فذكر أنه يتلو على نبيه خبر (موسى وفرعون بالحق) أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له، (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا)، أي تجبر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرب الأعلى، (وجعل أهلها شيعا)، أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع، (يستضعف طائفة منهم)، وهم شعب بني إسرائيل، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأرداها وأدناها ومع هذا (يُذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل فتحدث بها القبط فيما بينهم ووصلت إلى فرعون فذكرها له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذرا من وجود هذا الغلام ولن يغني حذر من قدر

وذكر السدي عن ابن مسعود: أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزقة والسحرة وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان

ولهذا قال الله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) وهم بنو إسرائيل (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) أي الذين يؤول ملك مصر وبلادها إليهم (ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) أي سنجعل الضعيف قويا والمقهور قادرا والذليل عزيزا، وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل كما قال تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) الآية وقال تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل) والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته

والأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى كما قال تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) ففرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى

وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور وخشي أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون فأمر فرعون بقتل الأبناء عاما، وأن يتركوا عاما، فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء، وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم، فضاقت أمه به ذرعا واحترزت من أول ما حبلت، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحبل فلما وَضعت أُلهمت أن تتخذ له تابوتا ربطته في حبل وكانت دارها متاخمة للنيل فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها فإذا ذهبوا استرجعته إليها به

قال الله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين، وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون) هذا الوحي وحي إلهام وإرشاد، كما قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا، يخرج من بطونها) الآية

قال السهيلي: واسم أم موسى "أيارخا" وألقي في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك وأن الله سيجعله نبيا مرسلا يُعلي كلمته في الدنيا والآخرة فكانت تصنع ما أُمرت به فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها فذهب مع النيل فمر على دار فرعون (فالتقطه آل فرعون)، قال الله تعالى (ليكون لهم عدوا وحزنا) اللام معللة قال تعالى (إن فرعون وهامان) وهو الوزير السوء (وجنودهما) المتابعين لهما (كانوا خاطئين) أي كانوا على خلاف الصواب فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة

وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه فلم يتجاسرن على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف

فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا جدا فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه، فاستوهبته منه ودفعت عنه (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك) فقال لها فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا، أي لا حاجة لي به والبلاء موكل بالمنطق وقولها: (عسى أن ينفعنا) وقد أنالها الله ما رجت من النفع أما في الدنيا فهداها الله به، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه (أو نتخذه ولدا) وذلك أنهما تبنياه، لأنه لم يكن يولد لهما ولد قال تعالى: (وهم لا يشعرون) أي لا يدرون ماذا يريد الله بهم حين قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده؟

وقال الله تعالى (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون، وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم، (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) أي من كل شيء من أمور الدنيا، إلا من موسى (إن كادت لتبدي به) أي لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة (لولا أن ربطنا على قلبها) أي صبرناها وثبتناها (لتكون من المؤمنين وقالت لأخته) وهي ابنتها الكبيرة (قصيه) أي اتبعي أثره واطلبي لي خبره (فبصرت به عن جنب) قال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده ولهذا قال (وهم لا يشعرون) وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة، فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما، فحاروا في أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل كما قال تعالى (وحرمنا عليه المراضع من قبل) فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق لعلهم يجدون من يوافق رضاعته، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته فلم تظهر أنها تعرفه بل قالت: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) قال ابن عباس: لما قالت ذلك قالوا لها: ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه؟ فقالت: رغبة في سرور الملك، ورجاء منفعته

فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه، فلما أرضعته التقم ثديها، وأخذ يمتصه ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك، فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها، وان تحسن إليها فأبت عليها، وقالت إن لي بعلا وأولادا، ولست أقدر على هذا، إلا أن ترسليه معي، فأرسلته معها ورتبت لها رواتب، وأجرت عليها النفقات والكساوي والهبات، فرجعت به تحوزه إلى رحلها، وقد جمع الله شمله بشملها

قال الله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق) أي كما وعدناها برده ورسالته، فهذا رده، وهو دليل على صدق البشارة برسالته (ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقد امتن الله على موسى بهذا ليلة كَلمه، فقال له فيما قال: (مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني) وذلك أنه كان لا يراه أحد إلا أحبه (ولتصنع على عيني) قال قتادة وغير واحد من السلف: أي تُطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل، وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظي وكلائتي لك فيما صنعتُ بك ولك وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك وامتنانه عليها شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى وهو احتكام الخَلق والخُلق وهو سن الأربعين في قول الأكثرين آتاه الله حكما وعلما وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه حين قال (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك، حتى كمل الأجل وانقضى الأمد، وكان ما كان من كلام الله له وإكرامه بما أكرمه به

قال تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي، وذلك نصف النهار (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يتضاربان ويتهاوشان (هذا من شيعته) أي إسرائيلي (وهذا من عدوه) أي قبطي قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق، (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة وارتفعت رؤوسهم بسبب أنهم أرضعوه وهم أخواله أي من الرضاعة فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي أقبل إليه موسى (فوكزه) قال قتادة بعصا كانت معه (فقضى عليه) أي فمات منها

وقد كان ذلك القبطي كافرا مشركا بالله العظيم ولم يُرد موسى قتله بالكلية وإنما أراد زجره وردعه ومع هذا (قال) موسى (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، قال رب بما أنعمت علي) أي من العز والجاه (فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين، وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين، فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر (خائفا) - أي من فرعون وملئه - أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رُفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم

فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم (خائفا يترقب) أي يلتفت فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلي (الذي استنصره بالأمس يستصرخه) أي يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله، فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته، قال له: (إنك لغوي مبين) ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي فيردعه عنه ويخلصه منه فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) قال بعضهم إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس، وكأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله إنك لغوي مبين، فقال ما قال لموسى وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس، فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون

ففرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس فأرسل في طلبه وسبقهم رجل ناصح من طريق أقرب (وجاء رجل من أقصى المدينة) ساعيا إليه مشفقا عليه فــ (قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) أي من هذه البلدة (إني لك من الناصحين) أي فيما أقوله لك

قال الله تعالى (فخرج منها خائفا يترقب) أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه قائلا (رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر (خائفا يترقب) أي يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون وهو لا يدري أين يتوجه، ولا إلى أين يذهب، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها، (ولما توجه تلقاء مدين) أي اتجه له طريق يذهب فيه (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود وكذا وقع، فقد أوصلته إلى المقصود، (ولما ورد ماء مدين) وكانت بئرا يستقون منها ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب عليه السلام وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء، (ولما ورد) الماء المذكور (وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي تكفكفان عنهما غنمهما أن تختلط بغنم الناس، (قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) أي لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء لضعفنا وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره قال الله تعالى (فسقى لهما) قال المفسرون: وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجئ هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ثم استقى لهما وسقى غنمهما ثم رد الحجر كما كان قال أمير المؤمنين عمر وكان لا يرفعه إلا عشرة وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما، (ثم تولى إلى الظل) قالوا: وكان ظل شجرة من السمر وروى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) قال ابن عباس: سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء، وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه - وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة

قال عطاء بن السائب لما قال: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) أسمع المرأة، (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين، قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل) لما جلس موسى عليه السلام في الظل (وقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) سمعته المرأتان فيما قيل فذهبتا إلى أبيهما فيقال إنه استنكر سرعة رجوعهما؛ فأخبرتاه بما كان من أمر موسى عليه السلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه، (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) أي مشي الحرائر، (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة وهذا من تمام حيائها وصيانتها، (فلما جاءه وقص عليه القصص) وأخبره خبره، وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها قال له ذلك الشيخ (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) أي خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم

فلما أضافه واكرم مثواه وقص عليه ما كان أمره بشره بأنه قد نجا، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها (يا أبت استأجره) أي لرعي غنمك، ثم مدحته بأنه (قوي أمين) قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت ذلك قال لها أبوها وما علمك بهذا؟ فقالت إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه فقال كوني من ورائي فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق

قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة صاحب يوسف حين قال لامرأته أكرمي مثواه، وصاحبة موسى حين قالت أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب، (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين)

ثم قال تعالى: (ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل)، يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت فأيهما قضيت فلا عدوان علي، والله على مقالتنا سامع وشاهد، ووكيل علي وعليك ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين، وأتمهما وهي العشر سنين كوامل تامة

روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس؟ فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل تفرد به البخاري من هذا الوجه

قال الله تعالى (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون، فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا اللهَ رب العالمين، وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين، اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين) وقوله: (وسار بأهله) أي من عند صهره ذاهبا فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف، فلما سار بأهله ومعه غنم قد استفادها مدة مقامه

قالوا: واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، وجعل يوري زناده فلا يرى شيئا، واشتد الظلام والبرد

فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور - وهو الجبل الغربي منه عن يمينه - فـ (قال لأهله امكثوا إني آنست نارا)، وكأنه والله أعلم رآها دونهم، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد (لعلي آتيكم منها بخبر) أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق (أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة لقوله في الآية الأخرى (وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق وجمَع الكل في سورة النمل في قوله (إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) وقد أتاهم منها بخبر، وأي خبر ووجد عندها هدى، وأي هدى واقتبس منها نورا، وأي نور

قال الله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا اللهُ رب العالمين) وقال في النمل (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (يا موسى إنه أنا اللهُ العزيز الحكيم) وقال في سورة طه (فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا اللهُ لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها فانتهى إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج، وكل ما لتلك النار في اضطرام وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد، فوقف متعجبا، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه، كما قال تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) وكان موسى في واد اسمه "طُوى" فكان موسى مستقبل القبلة، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب (إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى) فأمر أولا بخلع نعليه تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ولاسيما في تلك الليلة المباركة

ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له: (إني أنا اللهُ رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) أي أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له

ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار وإنما الدار الباقية يوم القيامة التي لابد من كونها ووجودها (لتجزى كل نفس بما تسعى) أي من خير وشر وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ومبينا له أنه القادر على كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون (وما تلك بيمينك يا موسى) أي أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ (قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) أي بلى هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها (قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى) وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء: (كن فيكون) وأنه الفعال بالاختيار

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات يقال الجان والجنان وهو لطيف، ولكن سريع الاضطراب والحركة جدا، فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة، فلما عاينها موسى عليه السلام ولى مدبرا أي هاربا منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك ولم يعقب أي ولم يتلفت، فناداه ربه قائلا له: (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء، أي من غير برص ولا بهق ولهذا قال: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب) وقال في سورة النمل: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين) أي هاتان الآيتان وهما العصا واليد وهما البرهانان المشار إليهما في قوله (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين) ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان حيث يقول تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا، قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون، فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون، وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات، فإن التسع من كلمات الله القدرية والعشر من كلماته الشرعية

فالله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون (قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبوني، قال سنشدُ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام في جوابه لربه عز وجل حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا قال (رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلوني، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبوني) أي اجعله معي معينا وردءا ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا

قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا) أي برهانا (فلا يصلون إليكما) أي فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال في سورة طه (اذهب إلى فرعون إنه طغى، قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي) ثم قال موسى عليه السلام (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا، قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت وأعطيناك الذي طلبت وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم قال الله تعالى: (وكان عند الله وجيها) وقال تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج: أي أخ أمَن على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه قال الله تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) وقال تعالى في سورة الشعراء: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين، قوم فرعون ألا يتقون، قال رب إني أخاف أن يكذبوني، ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون، ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون، قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون، فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين، أن أرسل معنا بني إسرائيل، قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) تقدير الكلام: فأتياه فقالا له ذلك، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤا ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه

فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلا له: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟

وقوله: (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) أي وقتلت الرجل القبطي وفررت منا وجحدت نعمتنا (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين) أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي، (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين) ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية والاحسان إليه (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) أي وهذه النعمة التي ذكرت من أنك أحسنت إلي وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك (قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال ربكم ورب آبائكم الأولين، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية

وذلك أن فرعون - قبحه الله - أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى، وزعم أنه الإله (فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب، وأن الله هو الخالق البارئ المصور الاله الحق كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته والإظهار أنه ما ثم رب أرسله وما رب العالمين لأنهما قالا له إنا رسول رب العالمين فكأنه يقول لهما: ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟

فأجابه موسى قائلا: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) يعني رب العالمين خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة وما بينهما من المخلوقات المتعددة من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ولابد لها من موجد ومحدث وخالق وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين

قال أي فرعون لمن حوله من أمرائه ومرازبته ووزرائه على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام (ألا تستمعون)؟ يعني كلامه هذا

قال موسى مخاطبا له ولهم: (ربكم ورب آبائكم الأولين) أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباء فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ولا يَحدث من غير محدث، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ولا نزع عن ضلالته، بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه: (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء رب الأولين والآخرين خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة والثوابت الحائرة، خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون، وفي فلك يسبحون، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء

فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهته ولم يبق له قول سوى العناد عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته: (قال لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين، قال أولو جئتك بشيء مبين، قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما وهما العصا واليد وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم الذي بهر به العقول والأبصار حين (ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) أي عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول، والمنظر العظيم الفظيع الباهر، حتى قيل: إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم بحيث أنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال

وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورا تبهر الأبصار فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى

ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك بل استمر على ما هو عليه، وأظهر أن هذا كله سحر، وأراد معارضته بالسحرة فأرسل يجمعهم من سائر مملكته، ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته

وقال تعالى في سورة طه: (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي، اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحي إليه وأنعم بالنبوة عليه وكلمه منه إليه قد كنتُ شاهدا لك وأنت في دار فرعون وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري فلبثت فيها سنين (ثم جئت على قدر) أي مني لذلك فيرافق ذلك تقديري وتسييري (واصطنعتك لنفسي) أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) يعني ولا تفترا في ذكري إذا قدمتما عليه ووفدتما إليه فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته وأداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه

ثم قال تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره، وهو إذ ذاك أردأ خلقه، وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين ويعاملاه بألطف معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى

كما قال لرسوله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) قال وهب بن منبه: قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة، (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا له سلطان في بلاد مصر طويل عريض وجاه وجنود وعساكر وسطوة فهاباه من حيث البشرية وخافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) كما قال في الآية الأخرى (إنا معكم مستمعون فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى، إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهما بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم (قد جئناك بآية من ربك) وهو البرهان العظيم في العصا واليد (والسلام على من اتبع الهدى) تقييد مفيد بليغ عظيم ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

21-11-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر