الدرس الثلاثون: الحديث 20 الحياء من الإيمان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 30 ربيع الأول 1437هـ | عدد الزيارات: 1940 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبيْ مَسْعُوْدٍ عُقبَة بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذا لَم تَستَحْ فاصْنَعْ مَا شِئتَ " رواه البخاري

أهمية الحديث:

إذا كان معنى الحياء امتناع النفس عن فعل ما يعاب، وانقباضها من فعل شيء أو تركه مخافة ما يعقبه من ذم، فإن الدعوة إلى التخلق به وملازمته إنما هي دعوة إلى الامتناع عن كل معصية وشر، وإلى جانب ذلك فإن الحياء خلة من خلال الخير التي يحرص عليها الناس، ويرون أن في التجرد عنها نقصاً وعيباً، كما أنه من كمال الإيمان وتمامه ويؤيد هذا ما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم (الحياء شعبة من الإيمان) و(الحياء لا يأتي إلا بخير) بل إن الإسلام في مجمل أحكامه وتوجيهاته إنما جاء دعوة بناءة للخير والحق ودعوة مخلصة في ترك ما يذم وما يعاب ولذلك انتقى الإمام النووي رحمه الله هذا الحديث في أربعينه وقال عنه وعلى هذا مدار الإسلام أي مدار أحكامه وتوجيه ذلك أن المأمور به: الواجب والمندوب يستحى من تركه والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحى من فعله وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه فتضمن الحديث الأحكام الخمسة الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح

لغة الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم (إنَّ) أداة توكيد خبرها مقدم وهو قوله (مِما أَدرَكَ الناسُ) واسم (إن) قوله صلى الله عليه وسلم (إذا لَم تَستَحْ فَاصْنَع مَا شِئت) وهذه الجملة على الحكاية، فتكون الجملة كلها اسم إن، والتقدير: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى هذا القول
وقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِما أَدرَكَ الناسُ) (من) هنا للتبعيض، أي إن بعض الذي أدركه الناس من كلام النبوة الأولى..... الخ.
الناس بالرفع ويجوز النصب أي إن مما بلغ الناس من كلام الأنبياء قبلنا وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند الإمام أحمد والبزار إن آخر ما تعلق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى (من كلام النبوة) مما اتفق عليه الأنبياء ومما ندب إليه الأنبياء ولم ينسخ أبداً وإضافة الكلام إلى النبوة إعلام بأن الحياء من قضايا النبوة المجمع عليها وفي رواية أبي داود وأحمد غيرهما (النبوة الأولى) أي التي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

قوله صلى الله عليه وسلم (إذا لَم تَستَحْ) مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء فلم تكتب تستحي

قوله صلى الله عليه وسلم (فَاصْنَع مَا شِئت) صيغة الأمر هنا على معنى التهديد والوعيد والمعنى إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإنك مجازى عليه

فقه الحديث:

أولاً: أن الآثار عن الأمم السابقة قد تبقى إلى هذه الأمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِمَا أَدرَكَ الناسُ مِن كَلاَمِ النُّبوَةِ الأُولَى إذا لَم تَستَحْ فَاصْنَع مَا شِئت

ثانياً: ما يؤثر عن النبوة الأولى ينقسم إلى ثلاثة أقسام

القسم الأول: ما شهد شرعنا بصحته، فهو صحيح مقبول مثل تحريم الزنا
القسم الثاني: ما شهد شرعنا ببطلانه، فهو باطل مردود مثل السجود للبشر كما فعل والدي يوسف وإخوته من السجود له احتراماً لا تعظيماً

القسم الثالث: ما لم يرد شرعنا بتأييده ولا تفنيده، فهذا يتوقف فيه

ومما يذكر عن داود عليه الصلاة والسلام حينما دخل محرابه أي مكان صلاته وجعل يتعبد وأغلق الباب، وكان صلى الله عليه وسلم قد جعله الله تعالى خليفة في الأرض يحكم بين الناس، فجاء الخصمان فلم يجدا الباب مفتوحاً، فتسورا الجدار فنزلا على داود، ففزع منهم، كعادة البشر، قالوا: لا تخف، وهذا يدل على أنهم أكثر من اثنين، فقالوا (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) ص: 22-23

هؤلاء خصوم يقول أحدهم: إن هذا أخي، وهذا أدب رفيع، لو كان في وقتنا هذا لقال إن هذا الظالم، لكن هذا قال (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي شاة (وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) أي غلبني لأن عنده بياناً وفصاحة

قال داود: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) ص: 24-25
استغفر ربه للأسباب الآتية

الأول: أنه انحبس في محرابه عن الحكم بين الناس، وكان الله تعالى قد جعله خليفة يحكم بين الناس، ولكنه آثر العبادة القاصرة على نفسه على الحكم بين الناس
الثاني: أغلق الباب مما اضطر الخصوم إلى أن يتسوروا الجدران، وربما يسقطون ويحصل في هذا ضرر
الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام حكم للخصم قبل أن يأخذ حجة الخصم الآخر، فقال (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) ص: 24 وهذا لا يجوز، أي لا يجوز للحاكم أن يحكم بقول أحد الخصمين حتى يسمع كلام الخصم الآخر، فعلم داود أن الله تعالى اختبره بهذه القصة فاستغفر ربه

ثالثاً: أن الحياء أصل الأخلاق الكريمة وأقوى باعث على فعل الخير واجتناب الشر

رابعاً: الحياء نوعان:

الأول: حياء فطري: وهو ما كان خَلْقاً وجبلة غير مكتسب، يرفع من يتصف به إلى أَجَلِّ الأخلاق، التي يمنحها الله العبد من عباده ويفطره عليها، والمفطور على الحياء يكف عن ارتكاب المعاصي والقبائح ودنيء الأخلاق، ولذا كان الحياء مصدر خير وشعبة من شعب الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم (الحياء شعبة من شعب الإيمان) وقد كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من استحيا اختفى ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقي

الثاني: الحياء المكتسب: وهو ما كان مكتسباً من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه سبحانه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمسلم الذي يسعى في كسب وتحصيل هذا الحياء إنما يحقق في نفسه أعلى خصال الإيمان وأعلى درجات الإحسان

وقد يتولد هذا الحياء من مطالعة نعم الله تعالى والشعور بالتقصير في شكرها روى الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً (الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وأن تذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله) وإذا خلت نفس الإنسان من الحياء المكتسب وخلا قلبه من الحياء الفطري لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والدنيء من الأفعال وأصبح كمن لا إيمان له من شياطين الجن والإنس

خامساً: عندما يكون الحياء امتناع النفس عن القبائح والنقائص فإنه خُلُقٌ يُمدح في الإنسان، لأنه يكمل الإيمان ولا يأتي إلا بخير

سادساً: من ثمرات الحياء العفة، فمن اتصف بالحياء حتى غلب على جميع أفعاله، كان عفيفاً بالطبع لا بالاختيار

سابعاً: يقابل الحياء الوقاحة وهي صفة مذمومة لأنها تحمل صاحبها على الانغماس في الشر وعدم المبالاة بما يلحقه من الذم واللوم حتى لا يستحي من الله ولا من الناس لا يروعه عن جهله غير العقوبة الصارمة وأخذه بالشدة إذ من الناس من يخافون ولا بستحون

ثامناً: واجب الآباء والمربين في المجتمع المسلم أن يعملوا جاهدين على إحياء خلق الحياء وأن يسلكوا في سبيل ذلك الطرق المدروسة

تاسعاً: يرشدنا الحديث إلى أن الحياء خير كله ومن كثر حياؤه كثر خيره ومن قل حياؤه قل خيره

عاشراً: لا حياء في تعليم أحكام الدين وطلب الحق قال تعالى: والله لا يستحي من الحق

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/3/30 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر