الدرس الثامن والثلاثون: الحديث 28 لزوم السنة واجتناب البدع

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 1 جمادى الآخرة 1437هـ | عدد الزيارات: 3560 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

" عَن أَبي نَجِيحٍ العربَاضِ بنِ سَاريَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ مَوعِظَةً وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ وَذَرَفَت مِنهَا العُيون. فَقُلْنَا: يَارَسُولَ اللهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوصِنَا، قَالَ: أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافَاً كَثِيرَاً؛ فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِيْ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المّهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كلّ مُحدثةٍ بدعة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ " رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح

ترجمة الراوي

العرباض بن سارية السُلمي من أعيان أهل الصُفة، سكن حمص ، وروى أحاديث، قال أحمد بن حنبل كنية العرباض أبو نجيح، وقال محمد بن عوف منزله بحمص عند قناة الحبشة، قال أبو مسهر وغيره توفي العرباض سنة خمس وسبعين، ويظن أنه دفن في قرية كفر لاها في محافظة حمص وله مقام وجامع يزوره أهل القرية ومقامه على بعد 27 كم من مدينة حمص

أهمية الحديث

هذا الحديث اشتمل على وصية أوصاها الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه والمسلمين عامة من بعده، وجمع فيها الوصية بالتقوى لله عز وجل، والسمع والطاعة للحكام المسلمين، وفي هذا تحصيل سعادة الدنيا والآخرة كما أوصى الأمة بما يكفل لها النجاة والهدى إذا اعتصمت بالسنة ولزمت الجادة، وتباعدت عن الضلالات والبدع

الشرح

قول العرباض (وَعَظَنا) الوعظ: التذكير بما يلين القلب سواء كانت ترغيباً أو ترهيباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً

قوله (مَوعِظَةً) التنوين هنا للتفخيم أي موعظة بليغة وكان ذلك بعد صلاة الصبح كما في رواية أحمد وفي بعض طرق الحديث: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك

قوله (وَجلَت مِنهَا القُلُوبُ) أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الأنفال: الآية 2

قوله ( وَذَرَفَت مِنهَا العُيون) أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء

قوله (فَقُلنَا يَا رَسُول الله: كَأنَّها) أي هذه الموعظة (مَوعِظَةَ مُوَدِّعٍ) وذلك لتأثيرها في إلقائها، وفي موضوعها، وفي هيئة الواعظ لأن كل هذا مؤثر وتسمع من الواعظ وتتأثر أكثر من المُسَجَل

قوله صلى الله عليه وسلم (قَالَ أوصيكُم بِتَقوَى الله عزّ وجل) هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) النساء: الآية 131، فتقوى الله رأس كل شيء، فالتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بامتثال أمره واجتناب نهيه على علم وبصيرة

قوله صلى الله عليه وسلم (وَالسَّمعُ والطَّاعَة) أي لولاة الأمر بدليل قوله (وَإِن تَأمَّر عَليكُم) والسمع والطاعة بأن تسمع إذا تكلم، وتطيع إذا أمر، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة بعد ذكر التقوى لأهميتها وعظم التمرد عليها

قوله صلى الله عليه وسلم (وَإن تَأمَّر عَلَيكُم) أي صار أميراً (عبدٌ) أي مملوك

قوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم) أي تطول به الحياة (فَسَيَرى) السين هنا للتحقيق (اختِلاَفاً كَثيراً) في العقيدة، والعمل والمنهج، وقد حصل هذا ووجده بعض الصحابة الذين عاشوا طويلاً من الفتن والشرور ما لم يكن لهم في الحسبان، ثم أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال (فَعَلَيكُم بِسَّنتي) أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها صلى الله عليه وسلم، فلا تبتدعوا في دين الله عزّ وجل ما ليس منه، ولا تخرجوا عن شريعته

قوله صلى الله عليه وسلم (وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدين) الخلفاء الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي

قوله صلى الله عليه وسلم (المهديين) صفة مؤكدة لكلمة الراشدين، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، فهي صفة توكيد يعني أنهم رشدوا لأنهم مهديون، فالراشدين جمع راشد وهو من عرف الحق واتبعه

قوله صلى الله عليه وسلم (عَضُّوا عَلَيهَا) أي على سنتي وسنة الخلفاء (بالنَّوَاجِذِ) وهي أقصى الأضراس، وهذه كناية عن شدة التمسك بها، أي أن الإنسان يتمسك بهذه السنة حتى يعض عليها بأقصى أضراسه

قوله صلى الله عليه وسلم (وَإيَّاكُم) لما حث على التمسك بالسنة حذر من البدعة

قوله صلى الله عليه وسلم (وَإيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمور) أي اجتنبوها، والمراد بالأمور شؤون الدين، أي المحدثة في الدين وليس لها أصل في الشريعة وهي مذمومة أما المحدثات في أمور الدنيا فمنها ما هو نافع فهو خير، ومنها ما هو ضار فهو شر، والمحدثات في أمور الدين كلها شر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَة) لأنها ابتدعت وأنشئت من جديد

قوله صلى الله عليه وسلم (كُل بِدعَةٍ ضَلالَة) أي كل بدعة في دين الله عزّ وجل فهي ضلالة، والبدعة لغة: ما كان مخترعاً على غير مثال سابق، وشرعاً: ما أُحدث على خلاف أمر الشرع ودليلِهِ، والضلالة بعد الحق لأن الحق جاء به الشرع فما لا يرجع إليه يكون ابتداعاً وضلالة

من فوائد الحديث

أولاً: مشروعية الموعظة، وينبغي أن تكون في محلها، وأن لا يكثر منها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، أخرجه البخاري ومسلم. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال (كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً، وخُطبته قصداً) وفي سنن أبي داود: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات) وروى البخاري ومسلم عن أبي وائل قال: كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك تحدثنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم كل يوم إلا كراهة أن أملكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا

ثانياً: ينبغي للواعظ أن تكون موعظته مؤثرة باختيار الألفاظ الجزلة المثيرة، فإن المخاطب بالموعظة إذا كانت بليغة فسوف يتأثر لقوله (وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) فعليه إذا تحدث عن الآخرة أن تكون الموعظة مرققة للقلوب، والقلب إذا خاف بكت العين، وإن كان قاسياً، نسأل الله أن يبعدنا من قسوة القلب وأن يرزقنا قلباً خاشعاً وعينا دامعة من خشية الله

ثالثاً: حتى تكون الموعظة مؤثرة ينبغي مراعاة الآتي

الأول: انتقاء الموضوع

الثاني: البلاغة في الموعظة

الثالث: عدم التطويل

الرابع: اختيار الفرصة المناسبة والوقت الملائم

رابعاً: من صفات الواعظ الناجح

الأول: أن يكون مؤمناً بكلامه، متأثراً به حريصاً على إيصاله إلى نفوس سامعيه

الثاني: أن يكون ذا قلب ناصح سليم من الأدناس، يخرج كلامه من قلبه الصادق فيلامس شغاف القلوب

الثالث: أن يطابق قوله فعله، ليقلدوه ويتابعوه

خامساً: أن أهم ما يوصى به العبد تقوى الله لفضيلة التقوى

سادساً: وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور، والسمع والطاعة لهم واجب بالكتاب والسنة، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فجعل طاعة ولي الأمر في المرتبة الثالثة بعد طاعة الله ورسوله ولم يأت بالفعل (أطيعوا) لأن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله تعالى ورسوله، ولهذا لو أمر ولاة الأمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة، وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله عزّ وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ) أخرجه مسلم، وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي الأمر أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، فهذا حرام، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع ربه

سابعاً: ثبوت إمرة العبد، لقوله صلى الله عليه وسلم (وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم عَبدٌ) ويجب طاعة الأمير فيما يتعلق بالحكم

ثامناً: وجوب طاعة الأمير وإن لم يكن السلطان، لقوله صلى الله عليه وسلم (وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم) ومعلوم أن الأمة الإسلامية من قديم الزمان فيها خليفة وهو السلطان، وهناك أمراء للبلدان، فإذا وجبت طاعة الأمير فطاعة السلطان من باب أولى

فائدة: إذا أمَّر الناس عليهم أميراً في السفر، فتلزمهم طاعته فيما يتعلق بأمور السفر ولا يجوز منابذته في غير ذلك، فلو قال لا أحد ينام إلا لابساً قميص النوم فلا يجوز لأحد أن يقول لن ألبس لأن منابذة ولي الأمر معصية بل يسكت وإن لم يلبس

تاسعاً: وجوب التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف وتعلمها

عاشراً: أن للخلفاء سنة متبعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك سنة عثمان رضي الله عنه في الأذان الأول ليوم الجمعة وسنة عمر رضي الله عنه في جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح وهناك حسنات منها جمع المصاحف في مصحف واحد وكتابة الحديث وإنشاء الدور لطلاب العلم وهي وسيلة إلى أمر مقصود شرعاً

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

1437/6/1 iJ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر