الدرس 324 صلة الرحم

المقال
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 1 جمادى الأولى 1435هـ | عدد الزيارات: 1265 القسم: الفوائد الكتابية

الحمد لله وكفى وبعد

يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا " (النساء 36)

أيها الإخوة: هذه آية كريمة من كتاب الله تناولت أمرين صريحين من رب العباد أولها أن نعبده وحده لا نشرك به شيئاً وثانيها أن نحسن إلى الوالدين وذوي القربى وبقية من عددتهم الآية، والآية في بساطتها تجعل حياة المؤمن ذات رباطين: رباط بالله الخالق قوامه العبادة الخالصة فحياة المؤمن تجري ما بين حالين حال العبادة وحال الإحسان وقد قامت العبادة على أساس أن الله واحد لا يتعدد ولا يتجزأ وقام الإحسان على أساس أن الأمة واحدة لا تتفرق ولا تتجزأ قال تعالى "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" فعلاقة المؤمن بمجتمعه علاقة أراد الله لها أن تكون إحساناً في كل شيء لأنها علاقة بين إخوة مهما تباعدت بهم الأنساب أو تفرقت بهم الديار

فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه وهو دائماً في حاجته لأن الإحساس بالأخوة قرين الإيمان بالله "إنما المؤمنون إخوة" ومثل المجتمع بهذه الصورة مثل الشجرة ضربت بجذورها في أرض الإسلام وارتوت بماء الإيمان فلا بد أن يصل إلى جميع فروعها وأغصانها وأوراقها دون استثناء لتكون ثمرتها أخوة باقية وإحساناً سخياً مباركاً فإذا ما سرنا مع الآية في نسقها الرفيع وجدناها تفرض هذا الإحسان أولاً للوالدين ثم لذوي القربى ثم لليتامى والمساكين ثم للجيران على مراتبهم وهكذا فبر الوالدين أول القربى ثم بقية أصحاب الحق فيه ممن يدخلون في نطاق الأخوة العامة ولكن ظروفهم المعيشية تجعلهم أحق بهذا الإحسان من غيرهم من البعداء

والمهم أن نقف أمام أوامر الإسلام بالإحسان إلى الوالدين لنتابع الأسلوب الذي استعمله الله سبحانه في إقناع المؤمنين بأمره لقد سلك القرآن مسلكاً عاطفياً للإقناع بضرورة هذا الإحسان فصور للمؤمن مرة مدى ما تعانيه الأم في حملها وفي ولادتها وفي رضاعها من تعب وإرهاق لا يطيقهما غيرها في هذه الظروف "حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" ، "حملته أمه وهناً على وهن" وصور للمؤمن مرة أخرى منظر الوالدين أحدهما أو كلاهما وقد شاب الرأس وانحنى الظهر وعجز العقل عن الفهم وأخذت التصرفات تسوء إلى حد الإثارة والإزعاج وكل ذلك يحدث من كبار السن ومع ذلك فلا ينبغي لمن يؤمن بالله ربا واحداً أن ينسى نفسه فينهرهما أو يوجه إليهما قولة فيها أدنى نقد لمسلكهما أو جرح لمشاعرهما فلسوف يكون هذا مصيره هو أيضاً بعد سنوات وما أسرع ما تمر الأيام وهنا نحس بلمسة دقيقة من الرحمن حين نقرأ قوله عز وجل "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" لقد استعمل القرآن لفظ ربياني الذي يأتي منه لفظ "رب" ليشعر المؤمن بقداسة جانبهما وبإن التربية جديرة بالعرفان من حيث كانت ذات اتصال بالربوبية

وفي ذلك أعظم تقدير للأبوين اللذين فرض الله لهما الحنان والإحسان قولاً وعملاً

ولنعد أيها الأحبة إلى بقية المراتب في استحقاق الإحسان لنجد بعد الوالدين ذوي القربى وهم ذوو الرحم الذين يجتمعون مع المرء في قرابة الدم بعد أخوة الروح فقرابة الدم هنا مكملة لصلة الأخوة في الله ومؤيدة لها وإنما اهتم الإسلام بهذه الصلة لأنها زيادة على الأخوة المفروضة بين المؤمنين وقرابة الدم لا قيمة لها بدون الشركة في الإيمان والأخوة في الله وقد وجدنا في القرآن إعظاماً لشأن القرابة التي يجمع شملها في ظل الإيمان فيقول الله سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" كما وردت أحاديث كثيرة تصور أهمية الرحم في وصل أبناء الأمة المسلمة يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه " قالَ اللَّهُ : أَنا الرَّحمنُ وَهيَ الرَّحمُ ، شَقَقتُ لَها اسمًا منَ اسمي ، من وصلَها وصلتُهُ ، ومن قطعَها بتتُّهُ " (صحيح أبي داود للألباني) ويقول في حديث آخر " الرَّحِمُ معلَّقةٌ بالعرشِ تقولُ : مَن وَصَلني وصلَه اللهُ ومَن قطعني قطعه اللهُ " (غاية المرام للألباني ) ولا ريب أن قاطع الرحم يحس بقطيعة الله له في هذه الدنيا حين تضيق عليه مذاهب الأرض ويحس كأن جلده يكاد يهرب منه لأن ذوي قرباه بعيدون عنه وربما كانوا من جملة الحاقدين عليه وقد كان من الممكن أن يطفئ هذا الحقد بالصلة الكريمة لأنهم أولى الناس بصلته وبالعون السخي لأنهم أحق الناس بمعونته وهو قادر بهذا الإحساس على أن يمتلك أنفسهم يتحصن بها ويدفع أحقادها وبمثل هذا يحس بالسعادة والرضا لأنه أسعد ذوي رحمه ووصل ذوي قرباه، إن قاطع الرحم يطارده الشؤم حيثما كان فهو معذب من الداخل بتأنيب ضميره وهو مطارد في كل مكان بنظرات الحقد والاحتقار مهما صادف ابتسامات من المنافقين والمتملقين هذا في الدنيا أما في الآخرة فحسبه قطيعة الله له أن لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وله قرابة محتاجون إلى صدقته ويصرفها إلى غيرهم والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة

اللهم اجعلنا من الواصلين لأرحامنا ولا تجعلنا من القاطعين لها

والسلام عليكم

1435/5/1 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 4 =

/500
روابط ذات صلة
المقال السابق
الفوائد الكتابية المتشابهة المقال التالي