الدرس 148: ربا النسيئة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 22 محرم 1439هـ | عدد الزيارات: 1322 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

سبق البحث في ربا الفضل

وربا النسيئة وهو تأخير التقابض في بيع الربويين وهو الأصل، ومن أجله حُرم ربا الفضل، كما جاء في حديث أسامة بن زيد (إنما الربا في النسيئة) أخرجه البخاري ومسلم، (إنما) من أدوات الحصر، وتكون النتيجة لا ربا إلا في النسيئة، لكن هذا الحصر منقوض بالأحاديث الصحيحة الدالة على ثبوت ربا الفضل، والذي قال (إنما الربا في النسيئة) هو الذي قال (مثلاً بمثل سواءً بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربأ) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهذا الحديث في ربا الفضل

لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال (إنما الربا في النسيئة) لينبه على أن ربا النسيئة أعظم من ربا الفضل، لأن ربا النسيئة هو المعروف في الجاهلية، حيث أن الإنسان إذا استدان من شخص آخر ثم حل الأجل ولم يوف قال نؤخر ونزيد، فكأنه قال إنما الربا الأعظم والأكثر إثماً هو ربا النسيئة

والرسول صلى الله عليه وسلم قال (إنما الربا في النسيئة) حصره في ربا النسيئة مع وجود ربا الفضل لأنه أعظم نوعي الربا

قول المؤلف رحمه الله (ويحرم ربا النسيئة) النسيئة معناها المؤخر، كما قال تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) التوبة: 37، يعني التأخير، وليس المراد بالآية ربا النسيئة، بل المراد ما بينه الله في آخر الآية (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) وذلك أن الأشهر الحرم هي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، لا يجوز فيها القتال، فكان العرب يتلاعبون فيها، أحياناً يؤجلون المحرم إلى صفر، فيحلون شهر محرم ويحرمون صفراً، قال تعالى (ليواطئوا عدة ما حرم الله) لاغين ما حرم الله، لأن عدة الأشهر الحرم أربعة، فيوافقون العدة ويخالفون التعيين، ولهذا قال (فيحلوا ما حرم الله) فالنسيء المذكور في الآية غير النسيء في الربا وهو تأخير القبض في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل عن مجلس العقد وهي على النحو الآتي

أولاً: إذا كان البيع في جنس واحد ربوي، حرم فيه التفاضل والنَساء

ثانياً: إذا كان في جنسين ربويين اتفقا في علة ربا الفضل، حرم بينهما النَساء فقط دون الفضل

ثالثاً: إذا كان بين جنسين ربويين لم يتفقا في العلة، جاز الفضل والنَساء

رابعاً: إذا كان بين شيئين ليسا ربويين، جاز كل شيء، الفضل والنسيئة

والتفصيل لاحقاً

قوله (في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل)، (كل جنسين) احترازاً من الجنس الواحد، فالجنس الواحد فيه ربا نسيئة وربا فضل، وكلام المؤلف يبين ربا النسيئة، والقاعدة أن كل شيئين يجري بينهما ربا الفضل فبينهما ربا نسيئة وليس العكس، ولهذا قال (في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل) وعلة ربا الفضل هي الكيل والوزن، سواء كان هذا المكيل مما يؤكل أو يقتات أو لا، وكذلك الموزون، فكل شيئين بينهما اتفاق في الكيل وهما ربويان فإنه يجري بينهما ربا النسيئة، لأن العلة هي الكيل

فقوله (اتفقا في علة ربا الفضل) إذا بعنا مكيلاً بمكيل من غير جنسه وجب التقابض قبل التفرق، سواء كان مطعوماً مثل السمن أو غير مطعوم مثل الأرز، فلو بعنا صاعاً من البر بصاع من الأشنان والأشنان عبارة عن دقيق يشبه الصابون الذي في العلب يغسل به الموتى سابقاً والملابس لاحقاً، وهو من شجر ييبس ويدق، وهو مكيل، فإذا باع صاعاً من الشعير بصاع من الأشنان وجب التقابض قبل التفرق، ولا يجب التساوي، لاختلاف الجنس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه

قوله صلى الله عليه وسلم (كيف شئتم) أي: بزيادة أو نقص ولكن (يداً بيد)

قوله (ليس أحدهما نقداً) فإن كان أحدهما نقداً فإنه لا يحرم النساء، كما لا يحرم التفاضل

مثال ذلك: باع حديداً بدنانير، فعلة ربا الفضل موجودة فيهما، فكلاهما موزون، فمقتضى القاعدة أنه يحرم النساء، لكن المؤلف رحمه الله استثنى فقال (ليس أحدهما نقداً) ودليل هذا الاستثناء حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) أخرجه البخاري ومسلم

وجه الدلالة من الحديث أن السَلَم لا بد فيه من تقديم الثمن وتأخير المثمن وهذا نسيئة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الإسلاف يكون في الدراهم وهي موزونة، أو في الدنانير وهي موزونة، ولهذا قال (أو وزن معلوم) فدل هذا على أنه إذا كان أحدهما نقداً فإنه يصح النساء، لئلا ينسد باب السلم في الموزونات، لأننا لو لم نقل بهذا الاستثناء لم يصح السَلم في الموزونات إذا كان الثمن دراهم أو دنانير، ومعلوم أنه إذا كان أحدهما نقداً واشتري به مكيل أنه يجوز فيه النساء، لأنهما اختلفا في علة ربا الفضل

وقوله (ليس أحدهما نقداً) لم يقل: ليس أحدهما ذهباً ولا فضة، لأنه لو كان أحدهما ذهباً أو فضة فلا بد من التقابض في مجلس العقد، فلو بعتك درهماً بدينار فلا بد من التقابض في مجلس العقد كما جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو بعتُ عليك حُلياً من الذهب بشيء من النحاس فلا بد فيه من التقابض، لأن المؤلف يقول: ليس أحدهما نقداً ولم يقل: ذهباً أو فضة

قوله (كالمكيلين) أي: إذا بيع بعضهما ببعض

قوله (والموزونين) أي: إذا بيع بعضهما ببعض، فإنه يحرم فيهما النساء

ودليل هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فأوجب القبض، وإيجاب القبض يعني تحريم النساء

أمثلة على ذلك

باع شعيراً ببر لا يجوز النساء، لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل، وهي الكيل

باع براً بحديد يجوز النساء، لأنهما اختلفا في علة ربا الفضل

باع طناً من الرصاص بطن من النحاس لا يجوز، لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل، وهي الوزن

باع صاعاً من التمر بصاع من البر، لا يجوز النساء، لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل وهي الكيل

اشترى طناً من الرصاص بمائة درهم، يجوز النساء، لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل وهي الوزن

قوله (وإن تفرقا قبل القبض بطل) إذاً القبض شرط لاستمرار صحة العقد، أي أن العقد تم وصح، لكن يشترط لاستمرار صحته القبض، ولهذا قال (وإن تفرقا قبل القبض بطل)

مثاله

باع عليه براً بشعير في الدكان، لكن الشعير في المخزن وقال: ائتني بعد ساعة في المخزن لأعطيك الشعير، فهذا لا يجوز، لأنهما تفرقا قبل القبض، فإن قال: أعطني يدك ومشيا إلى المستودع وسلمه فهذا جائز، لأنهما لم يتفرقا

قوله (وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنَّساء)

مثاله: باع مائة صاع من البر بمائة كيلو من النحاس فهذا يجوز، لأنهما لم يتفقا في علة ربا الفضل وفي الجنس أيضاً، فيجوز التفرق ويجوز النساء

قوله (وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء) لأنه ليس بربوي، إذ إن الربوي إما مكيل وإما موزون، فما لا كيل فيه ولا وزن فإنه يجوز فيه النساء، ولم يقل ربا الفضل، لأنه إذا جاز النساء جاز الفضل ولا عكس، فقد يجوز الفضل ولا يجوز النساء كالبر بالشعير مثلاً يجوز فيه الفضل، ولا يجوز فيه النساء

مثال ذلك: بعت عليك ثوباً بثوبين، الثوب حاضر والثوبان بعد ستة أشهر جاز، لأن الثياب لا يقع فيها الربا، لأنها ليست مكيلاً ولا موزوناً

مثال آخر: إنسان احتاج إلى بعير وليس عنده دراهم، فجاء إلى شخص وقال: أعطني بعيراً الآن وأعطيك بعيرين بعد سنة جاز، لأنه ليس بربوي، ولأنه ليس فيه كيل ولا وزن، ويدل له أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينفذ جيشاً فكان يأخذ على قلائص الصدقة البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة. أخرجه أحمد وصححه الألباني

والقلائص جمع قلوص وهي الناقة المسنة

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

22-01-1439 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر