الدرس الستون : ربا النسيئة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 28 ذو القعدة 1434هـ | عدد الزيارات: 2333 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

المصارف والبنوك التي لا تتعامل بالربا يجوز التعامل معها ، وإذا كانت تتعامل بالربا فلا يجوز التعامل معها ، وليست بنوكاً إسلامية .

ربا النسيئة مأخوذ من النسأ ، وهو التأخير ، وهو نوعان :-
الأول : قلب الدين على المعسر ، وهذا هو ربا الجاهلية ، فيكون للرجل على الرجل مال مؤجل ، فإذا حلَّ قال له صاحب الدين إما أن تقضي ، وإما أن تربي ، فإن قضاه وإلا زاد الدائن في الأجل وزاد في الدين مقابل التأجيل ، فيتضاعف الدين في ذمة المدين .
الثاني : ما كان في بيع جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ، مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما ، كبيع الذهب بالذهب أو بالفضة ، أو الفضة بالذهب مؤجلاً أو بدون تقابض في مجلس العقد .
أما ربا الفضل فهو مأخوذ من الفضل ، وهو الزيادة في أحد العوضين ، وجاءت النصوص بتحريمه في ستة أشياء ، وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، فإذا بيع أحد هذه الأشياء بجنسه حرم التفاضل بينهما ، ويقاس على هذه الأشياء الستة ما شاركهما في العلة ، فلا يجوز مثلاً بيع كيلو ذهب رديء بنصف كيلو ذهب جيد ، وكذا الفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، لا يجوز بيع شيء منها بجنسه إلا مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد .
لكن يجوز بيع كيلو ذهب بكيلوين فضة إذا كان يداً بيد لاختلاف الجنس ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه .

بيع دراهم نقداً بدراهم أكثر منها إلى أجل ربا نسيئة وربا فضل وقد دلَّ الكتاب والسنة على تحريم الربا بنوعيه وبناءً على ذلك لا يجوز بيع أربعة آلاف نقداً بستة آلاف إلى أجل وليس للبائع إلا رأس ماله وهو أربعة آلاف فقط وإن حصل بينكما نزاع فالمرجع للمحكمة وعليكما جميعاً التوبة إلى الله من هذا الذنب العظيم لقول الله سبحانه " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " النور 31 .

معنى بيع الكالئ بالكالئ هو بيع النسيئة بالنسيئة ، أي بيع الدين بالدين ، وهو غير جائز ، وله صور منها :-

أولاً : أن يبيع ما في الذمة حالاً من عروض وأثمان بثمن مؤجل لمن هو عليه أو غيره .

ثانياً : أن يجعل رأس مال السلم ديناً ، كأن يسلم مائة درهم إلى سنة في آصع من طعام أو نحوه ، فإذا انقضى الأجل قال الذي عليه الحق للدافع ليس عندي ما أعطيك إياه ، ولكن بعني هذا الطعام بمائتي درهم إلى شهر ونحوه .
أما مسألة بيع السلعة المقبوضة التي اشتريتها بأجل ، ثم تبيعها بأجل قبل أن تدفع ثمنها فهو جائز ولا تدخل في مسألة بيع الكالئ بالكالئ لأنه بيع للسلعة التي قبضتها واستقرت في ملكك بالشراء .

الإيداع في البنوك بربح معين لا يجوز لأن هذا عقد يشتمل على ربا ، وقد قال الله " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " البقرة 275 ، وقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ " البقرة 278 ، 279 ، وهذا القدر الذي يأخذه الدافع للوديعة لا بركة فيه ، قال تعالى " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ " البقرة 276 ، هذا النوع من الربا ربا نسيئة وفضل لأن المودع يدفع نقوده للبنك بشرط بقائها مدة معلومة بربح معلوم

وإن أمكن من عنده نقود أن يودعها عند من يغلب على ظنه أنه لا يستعملها في البيوع المحرمة تعيَّن عليه ذلك ، فإن لم يأمن على بقائها عنده ولم يتمكن من إيداعها عند من يستعملها في المعاملات المشروعة ، وخشي عليها الضياع فليتحر بقدر الإمكان في جعلها عند أقل البنوك تعاملاً في المحرمات ، وإذا كان البنك يستعين بما وضعه لديهم المودع من الأموال في المعاملات الربوية ، وكان صاحب المال يستطيع أن يحفظ ماله من السراق ونحوهم بطرق أخرى ليس فيها ربا حرم عليه إيداعه في البنك وغيره ممن يستعمله في معاملات محرمة ، ويستعين به على ارتكاب المنكرات ، فإن وسيلة الشر شر ، والإعانة على فعل المحرم حرام ، والوسائل لها حكم الغايات .

والعمل في البنوك التي تتعامل بالربا محرم لأن الموظف فيها إما كاتب حساب الربويات ، أو متسلم النقود التي يتعامل فيها بالربا ، أو مسلم لها ، أو حاملها أو ناقل أوراقها ، من مكتب إلى آخر ، أو مكان إلى آخر ، أو مساعد لهؤلاء على أعمالهم بقضاء مصالحهم في البنك ونحوه ، فهم في عمل محرم بطريق مباشر أو غير مباشر ، وما يتقاضاه المكلف بذلك على القيام بعمل محرم من الأجر حرام .

البنوك الأجنبية تتعامل بالربا مع مَن تقرضه ومع من يودع فيها نقوداً ومع غيرهم ولابد لمن عمل فيها كاتباً للحسابات أن يتولى حساب المعاملات الربوية ويقيد في الدفاتر ما على كل من أطراف المعاملات وما له ، ويتحدد بذلك المدين من الدائن وعلى ذلك ينطبق الحديث على كاتب الحساب في البنوك الأجنبية وما في حكمها من المصارف ونص الحديث : " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه " .

إيداعك النقود في البنك بلا فائدة فهو جائز إذا كنت مضطراً إلى ذلك وأخذك ما فاز به رقمك من الجوائز المالية لا يجوز وهو ربا لأن ذلك لم يُدفع لك إلا من أجل نقودك التي وضعتها في البنك وتسميتهم ما يدفعونه لك جائزة أو مكافأة لا يخرجه عن معنى الربا لأن العبرة بالحقائق لا بالأسماء ولولا وجود نقودك بأيديهم واستغلالهم إياها لمصلحتهم ما دفعوا المبلغ الذي سموه جائزة وعلى هذا لا يجوز لك أن تأخذ هذه الجوائز ، أما تحويل مبلغ عن طريق البنك بأجرة فيجوز .

إذا تُوفي مسلم وخلَّف أموالاً في بعض البنوك الربوية ولها فوائد لم يجز للورثة ولا غيرهم من أولياء المتوفى أخذ الفوائد الربوية لمصلحتهم لأن الله سبحانه وتعالى قد حرَّم الربا ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكله وكُتَّابه والشهود عليه ، ولكن لا تُترك الفوائد في البنوك بل تُؤخذ وتصرف حالاً في المشاريع الخيرية وأوجه البر كمواساة الفقراء وقضاء دين المعسرين ونحو ذلك وعلى المسئول عن رؤوس الأموال سحبها من البنوك لأن في بقائها فيها نوعاً من إعانتهم على الإثم والعدوان إلا أن يضطر إلى بقائها فيها فلا بأس لكن بدون فوائد .

ما أخذته من الفوائد قبل العلم بتحريمها فنرجوا أن يعفو الله عنك في ذلك ، وأما ما بعد العلم فيجب عليك التخلص منه وإنفاقه في وجوه البر كالصدقة على الفقراء والمجاهدين في سبيل الله مع التوبة إلى الله من المعاملة بالربا بعد العلم لقوله سبحانه " وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلبَيعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ " البقرة 275 .

وأما المساجد فلا تبنى من الأموال الربوية ولا يحل للإنسان الإقدام على أخذ الفوائد ولا الاستمرار في أخذها .

لا بأس بفتح حسابات لجمعية البر وغيرها في البنوك إذا كان الغرض التسهيل وعدم المحذور ، وإنما الممنوع فتح الحساب من أجل الاستثمار الممنوع وأخذ الفوائد الربوية .

ولا يجوز أخذ الفوائد الربوية على الأموال المودعة في البنوك سواء كانت نقوداً أو منافع أخرى كالقيام بخدمات للمودعين من أعمال صيانة وغيرها .

عند تبديل العملات الأجنبية بعملات محلية لدى البنك واشتراط فتح حساب آخر عنده لا يجوز لأن في ذلك اشتراط عقد في عقد وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وقال : " لا يحل سلف وبيع " .

إيداع أموال الجمعية لدى البنك أو غيره بشرط التبرع من البنك المودع فيه يعتبر ذلك التبرع رباً لأنه في حكم القرض الذي اشترطت فيه الزيادة لأن سبب التبرع وجود الأموال عنده ولأن البنك سيوقف التبرع إذا سحبت الأموال المودعة من الجمعية .

إيداع الأموال في البنوك أو غيرها بفوائد محرم أما إيداعها أمانة مع دفع أجرة للبنك مقابل حفظها فليس ربا ولا حرج فيه .

القرض بالفائدة محرم لأنه ربا وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل قرض جر نفعاً فهو ربا " ، ومنه إعطاء المقرض أرضاً يستغلها وينتفع بها بزراعة أو غيرها إلى أن يسدد القرض فلا يجوز .

وإيداع نقود في البنوك ونحوها تحت الطلب أو لأجل مثلاً بفائدة ، مقابل النقود التي أودعها حرام ، وإيداعها بدون فائدة في بنوك تتعامل بالربا فيما لديها من أموال محرم لما في ذلك من إعانتها على التعامل بالربا ، والتمكين لها من التوسع في ذلك - اللهم إلا إذا كان مضطراً لإيداعها خشية ضياعها أو سرقتها ولم يجد وسيلة لحفظها إلا الإيداع في البنوك الربوية - فربما كان له في إيداعها فيها رخصة من أجل الضرورة .

والتعاون مع البنك الذي يتعامل بالربا بعمولة ، مقابل إحضار عملاء له يودعون فيه نقودهم في نظير نسبة مئوية من رءوس أموالهم مثلاً حرام صريح .

والربح الذي حدد لك بنسبة مئوية من رأس مالك الذي اتجر به البنك ، مع سائر الأموال الأخرى ربا محض فلا يجوز له أخذها بحجة أنه سينفقها على الفقراء لأن الله حرم الربا مطلقاً ، وشدد الوعيد فيه ولا تجوز الصدقة منه لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، لكن إن كان قد قبض الفوائد الربوية فعليه أن يصرفها على الفقراء تخلصاً منها وليس له أن يستفيد منها .

وبالله التوفيق

وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

26 - 11 - 1434هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر