الدرس 155: باب السَّلم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 15 ربيع الأول 1439هـ | عدد الزيارات: 1457 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

قول المؤلف رحمه الله (باب السَّلم) السَّلم مأخوذ من التسليم، وذلك لأن المسلِم يقدم الثمن إلى المسلَّم إليه، وأما السلف فهو مأخوذ من التقديم

وصورة ذلك: أن تأتي لرجل فلاح وتقول يا فلان خذ هذه عشرة آلاف ريال بمائة كيلو من التمر تحل بعد سنة، فهذا هو السَّلم، لأن المشتري قدم الثمن، والمثمن مؤخر

والسَّلم جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس

أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) البقرة: 282

وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما بهذه الآية على جوازه. أخرجه عبد الرزاق وصححه الحاكم على شرط الشيخين

لأن قوله تعالى (إذا تداينتم بدين) يعم ما إذا كان الدين هو الثمن أو المثمن، فإن كان الدين هو المثمن فهذا هو السَّلم

وأما السنة ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) أو (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) أخرجه البخاري ومسلم

وقد انعقد الإجماع على ذلك

وجواز السَّلم هو القياس الصحيح الموافق للأصول، لأنه بيع موصوف في الذمة، والقاعدة أن كل ما ثبت بالشرع ليس مخالفا للقياس

فالسَّلم على وفق القياس، لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري، أما المشتري فمصلحته أن يحصل على أكثر، والبائع مصلحته أن يتعجل له الثمر

ويجوز مخالفة القياس لمصلحة راجحة

والمحظور الشرعي إذا قابلته مصلحة راجحة أرجح منه أصبح جائزا بمقتضى ترجح المصلحة، وإذا كان الشرع يحرم الشيء، لأن إثمه أكبر، فإنه يبيح الشيء إذا كانت مصلحته أكبر، ولهذا العبارة المشهورة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) هذه يجب أن تكون مقيدة بما إذا تساوت المفاسد والمصالح، وإلا فإنه قد يكون في بعض الأشياء مصلحة ومضرة فترجح المصلحة، فيحلل من أجل هذا الرجحان

كذلك فإن السَّلم ينضبط بالصفات، ولهذا لا يصح فيما لا ينضبط بالصفات

لأن الشريعة الإسلامية واسعة سهلة ميسرة، والعقود فيها من هذه الجهة أربعة أنواع

الأول: الحال بالحال كأن تقول اشتريت منك هذا الكتاب بعشرة ريالات، هذا حال بحال

الثاني: المؤجل بمؤجل أن تقول اشتريت منك كتابا صفته كذا وكذا تسلمنيه بعد سنة بعشرة ريالات مؤجلة إلى ستة أشهر، وهذا لا يصح، لأنه بيع كالئ بكالئ أي مؤخر بمؤخر

الثالث: أن يعجل الثمن ويؤخر المثمن وهذا هو السَّلم

الرابع: أن يعجل المثمن ويؤخر الثمن وهذا كثير في المعاملات

قوله (وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد)

قوله (عقد على موصوف) احترازا من المُعين، فلا يصح السَّلم في المعين، لأنه لا حاجة إلى الإسلام فيه، ما دام حاضرا يباع بيعا بدون أن يكون سلما

مثال ذلك: رجل عنده مائة صاع بر في أكياس، فقال له آخر أسلمت إليك مائة ريال بهذا البر، فهذا لا يصح، لأنه ليس على موصوف، بل على معين، حتى وإن كانا قد اتفقا على أن البائع لا يسَلم هذا البر إلا بعد سنة فإنه لا يصح ولا يكون سلَما

وقوله (في الذمة) احترازا من الموصوف المعين، لأن هناك شيئا موصوفا معينا ليس في الذمة، مثل أن يقول أسلمت إليك أربعين ألفا بسيارتك التي في المعرض، صفتها كذا وكذا، فهذا موصوف معين فلا يصح السَّلم فيه، لأن هذا كالمعين الحاضر

أما إن قال: أسلمت إليك هذه الأربعين ألفا بسيارة بعد سنة فهذا يصح، لأنه موصوف في الذمة

وقوله (مؤجل) إن لم يكن مؤجل فإنه لا يصح

مثال ذلك: أن يقول أسلمت إليك مائة ريال التي بيدي الآن بمائة صاع بر، فحكم هذا العقد لا يصح سلما، لأن السَّلم لا بد أن يكون مؤجلا، والدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (فليسلف في شيء معلوم إلى أجل معلوم) أخرجه البخاري ومسلم، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إلى أجل معلوم) يعود إلى علم الأجل، يعني لا إلى أجل مجهول

وقوله (بثمن مقبوض) أي لا بد أن يكون الثمن مقبوض، فإن لم يقبض بطل

وقوله (بمجلس العقد) لا بد أن يقبض المسَلم إليه الثمن بمجلس العقد، فإن قبضه بعد التفرق فلا يصح، فلو اتفقا على السَّلم في السوق، ثم اصطحبا إلى بيت المسلِم وأعطاه الثمن من بيته وهما لم يتفرقا فالسَّلم صحيح، لأنه حصل القبض قبل التفرق

وجواز السَّلم من محاسن الإسلام، ويدل على هذا أن الفلاحين فيما سبق يحتاجون إلى دراهم، فيأتي الفلاح إلى التاجر فيقول أعطني مثلا مائة ريال، فيرفض التاجر، فيقول له الفلاح أعطيك بعد تمام السنة بالمئة ريال مئة صاع بر، فينتفع هذا وهذا، فصار كل من المسلِم والمسلَّم إليه مستفيدا منتفعا، أما المسلَّم إليه فينتفع بالدراهم التي حصل عليها، وأما المسلِّم فينتفع بنقص الثمن، لأنه سيأخذها بثمن أقل، فهو من محاسن الشريعة

قوله (ويصح بألفاظ البيع) يصح السَّلم بألفاظ البيع بأن يقول: اشتريت منك مائة صاع بر بعد سنة بهذه الدراهم، وإذا أراد المسلم إليه أن يعقده فقال: بعتك مائة صاع بر تحل بعد سنة بمائة ريال، فيصح بألفاظ البيع

قوله (والسَّلم والسَّلَف) أي يصح بألفاظ السَّلم والسلف، فجميع العقود تنعقد بما دل عليه اللفظ عرفا

قوله (بشروط سبعة) هذه الشروط بعضها داخل في شروط البيع التي ذكرناها في الدروس السابقة، وبعضها زائد عليها، وهي شروط للصحة وليست للزوم، لأن شروط اللزوم إنما هي الشروط في العقد، أما شروط العقد فهي شروط لصحته

قوله (أحدها انضباط صفاته) أي أن يكون انضباط صفاته ممكنا، وأما ما لا يمكن انضباطه فلا يصح السَّلم فيه لوجود الغرر والجهالة، ويحصل الانضباط بما ذكره المؤلف في قوله (بمكيل وموزون ومذروع) فقوله (بمكيل) الباء بمعنى الكاف يعنى كمكيل وموزون ومذروع

وقوله (بمكيل) مثل البر، وموزون كاللحم، والسكر، ومذروع كالأقمشة والفرش والحبال وما أشبهها

والمعدود يصح فيه السَّلم إذا أمكن انضباطه، وإن لم يمكن فلا، فالبرتقال لا يمكن انضباطه لأن بعضه صغير وبعضه كبير، والبطيخ لا يمكن انضباطه، وهلم جرا

قوله (وأما المعدود المختلِف كالفواكه) فلا يصح السَّلم فيه، لأنه مختلف اختلافا عظيما، فبعض البرتقال كبير وبعضه صغير، فإذا قلت أسلمت إليك مائة ريال بمائة برتقالة فلا يصح، لعدم انضباطها في الحجم

قوله (والبقول) جمع بقل وهو الذي ليس له ساق من الزروع، مثل: البصل والكراث وما أشبه ذلك، فهذه أيضا لا تصح، لتعذر انضباطها بحجم معين، فأسلمت إليك مائة ريال بمائة حزمة من البصل، فهذا لا يصح، لأنه لا يمكن انضباطه، لكن لو جعلتها وزنا صح، لأنها لا تختلف

قوله (والجلود) أيضا لا يمكن انضباطها، إذا قلت أسلمت إليك ألف ريال بمائة جلد شاة فهذا لا يصح، لأنها تختلف اختلافا عظيما بالكبر والصغر والقوة وحسن السلخ، لأن بعض الذين يسلخون يأتي الجلد وكأنه منخل، لأنه لا يعرف يسلخ، وبعضهم يكون سلخه جيدا، وبعضه يلحق اللحم بالجلد

قوله (والرؤوس) أي إذا أسلمت إليك ألف ريال بمائة رأس شاة بعد سنة، فهذا لا يصح، لأن الرؤوس تختلف، فبعض الضأن إذا رأيت رأسه تقول هذا رأس بقرة تقريبا، وبعضه يكون صغيرا جدا، فالمذهب لا يصح، لكن لو بعتها وزنا يجوز، لأن الوزن يضبطها

قوله (والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم) القماقم نوع من الأواني يكون أسفلها واسعا وأعلاها ضيقا، فالأواني قسمان

قسم مختلف الرؤوس والأوساط وهي التي تكون منتفخة في الوسط ورأسها مضموم، فهذه لا يصح السَّلم فيها، لأن الصناعة فيما سبق صناعة باليد وقل أن تنضبط الصفة، أما الآن فالصناعة بالآلات، فإذا قلت أسلمت إليك بأوان من طراز كذا وكذا فيمكن ضبطه، بل وأشد ضبطا من المكيل والموزون، وفهم من قوله رحمه الله (المختلفة الرؤوس والأوساط) أنه لو كانت رؤوسها وأوساطها سواء لجاز عقد السَّلم عليها، لأنه يمكن ضبطها، هذا فيما كان في زمانهم، وأما في زماننا فإنه يمكن ضبطها، لكن يحدد من أي شيء هي

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

15-03-1439 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة
الدرس السابق
الدروس الكتابية المتشابهة الدرس التالي