الدرس 332: الطب

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 10 ربيع الأول 1439هـ | عدد الزيارات: 1430 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

من الضروريات الخمس التي دلت نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها، وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها حفظ نفس الإنسان، وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين

فعليهم أن يحتسبوا في ذلك، ولا يملوا من كثرة تردد المريض ولا تضيق صدورهم من طول أمد العلاج، ولا ييأسوا من حسن العواقب، فإن الأمور بيد الله يصرفها كيف يشاء، ولا يمنعهم من ذلك استحكام الداء واستغلاق العلاج، وتوقع الموت والهلاك، فكم من مريض استعصى داؤه واستفحل أمره فوهب الله له الشفاء، وكم من مريض شخص داؤه وعرف دواؤه وأمل فيه الشفاء، فواتته منيته رغم عناية معالجيه

ولا تحملنهم المهارة في الطب وكثرة تجاربهم فيه على أن يجعلوا من ظنونهم حسب ما لديهم من أسباب قطعا، وأن يجعلوا من توقعاتهم واقعا، فكم من ظنون كذبت، ومن توقعات أخطأت، وليعلموا أنا وإن أمرنا بالأخذ بالأسباب فالشفاء من الله وحده مسبب الأسباب، وعلم الآجال إليه وحده، لا يعلمها إلا هو، وعلى ولي الأمر العام أن يهيئ وسائل العلاج من أطباء وأجهزة ومستشفيات ونحو ذلك، فالجميع راع ومسؤول عن رعيته، كل في حقله وميدانه بقدر ما آتاه الله من طاقة علمية، أو مادية أو عملية، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم جميعا أن يحسنوا فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، وهو سبحانه يحب المحسنين

فليس لهم أن يتعلقوا في ترك العلاج والإهمال فيه والإعراض عن الأخذ بأسباب الشفاء، بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم، فقلت إنهم أمتي، فقيل لي هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض ودخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة) رواه البخاري ومسلم واللفظ له

ولما بين الفريقين من الفرق البين، فإن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قد تركوا أسبابا مادية، قد كرهها النبي صلى الله عليه وسلم وأسبابا معنوية قد يكون في جنسها شوائب شرك إلى أسباب روحية، هي التوكل على الله ودعاؤه سبحانه تضرعا وخفية، وللأسباب المعنوية من التأثير بإذن الله في أنواع من الأمراض والبرء منها ما ليس للأسباب المادية، فهم لم يتركوا الأخذ بالأسباب مطلقا، وإنما اختاروا منها نوعا طابت به نفوسهم، وآثروه على غيره، مع إخلاص وصدق في التوكل على الله، وصبر على البلاء، ولم يستسلموا للأمراض يائسين من الشفاء، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم تركوا جميع الأسباب المادية المتاحة، وقد ثبت في الحديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)

وقد وردت الشريعة بالأمر بالعلاج والتداوي بالأدوية المباحة، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) وعن أسامة بن شريك قال (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله: أنتداوى؟ قال: نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله) رواه أحمد

وهذه العلاجات المشروعة للوقاية من الأمراض، ولدفع المرض إذا نزل هي أسباب فقط، وإلا فالشفاء والعافية من الله سبحانه وتعالى

والتداوي أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به، وتركه لا بأس به، وحديث (من أخذت حبيبتيه فصبر عوضته الجنة) صحيح. ومعناه: أن من أخذ الله نور عينيه فصبر، عوضه الله الجنة، وهذا هو الأفضل وهو المتفق مع الحديث، وإذا عالجها عند الطبيب جاز ذلك وهذا لا ينافي الحديث لأن الحديث فيه بيان الأفضل وبيان الأفضل لا ينافي الجواز، فيجوز للمرء العلاج بالأدوية المباحة، وذلك لا ينافي التوكل، لأنه من تعاطي الأسباب التي قد ينفع الله بها، وأما من استسلم للقضاء ورضي به وتلذذ بالبلاء وتوكل على المولى جل وعلا، تاركا الأسباب المشروعة كطلب الرقية والكي، فهو أفضل

يمكن فتح مستوصف، وذلك بجعل عيادة خاصة للنساء يباشرها نساء، وعيادة خاصة للرجال يباشرها أطباء رجال، بشرط أن لا يحصل اختلاط بين الرجال والنساء، وبذلك يزول المحذور

إذا فعل الطبيب ما أُمر بفعله وكان حاذقا في صناعته ماهرا في معرفة المرض الذي يجري من أجله العملية وفي إجرائها، ولم يتجاوز ما ينبغي أن يفعله لم يضمن ما أخطأ فيه، ولا ما يترتب على سرايته من الموت أو العاهة، لأنه فعل ما أذن له فيه شرعا، ونظيره ما إذا قطع الإمام يد السارق أو فعل فعلا مباحا له مأذونا له فيه، أما إذا لم يكن حاذقا فلا يحل له مباشرة العملية، بل يحرم، فإن أجراها ضمن ما أخطأ فيه وسرايته، وكذا إن كان حاذقا لكن جنت يده بأن تجاوزت ما تحتاج إليه العملية، أو أجراها بآلة كالة يكثر ألمها أو في وقت لا يصلح عملها فيه، أو أجراها في غيرها ونحو ذلك، ضمن ما أخطأ فيه وسرايته، لأن هذا فعل غير مأذون فيه بل محرم

ويجب على الطبيب أن يتحرى في تشخيص المرض، ويتعاون مع زملائه في ذلك قبل إجراء العملية، ويستعين في التشخيص بقدر الإمكان بالآلات الحديثة، ولا يتعجل بالعملية قبل التأكد من التشخيص، وإذا أجراها بعد ذلك وأخطأ فعليه أن يعلن خطأه لمن هو مسؤول أمامهم، ولا يموه ولا يعمي، ويسجل ذلك في ملف المريض خوفا من الله تعالى، وأداء لواجب الأمانة، وإيثارا لمصلحة المريض، وتقديما لها على مصلحة المعالج، ودفعا لما قد يترتب على التعمية والتمويه من العواقب السيئة للمريض، ولا يستحق أجرا على العملية التي أخطأ فيها

وهناك بعض الأحكام الشرعية الأخرى التي يلزم الأطباء ومساعديهم معرفتها منها

أولاً: عدم جواز الاختلاط بين العاملين من الرجال والنساء، فإن شر الاختلاط عظيم، وخطره وبيل على الفرد والمجتمع

ثانياً: عدم تجمل العاملات في المستشفيات من طبيبات وممرضات وغيرهن، سواء بالثياب أو العطور، فإن تعطر المرأة وتجملها أمام الأجانب عنها يجر من الشرور ما لا يخفى

ثالثاً: عدم خضوع العاملات في المستشفيات بالقول عند حاجتهن للتحدث مع الرجال غير محارمهن، على أنه لا يجوز لهن التحدث معهم إلا من وراء حجاب، ودون اختلاط، ولا يخفى أن إقامة أجنحة خاصة بالنساء لا يدخلها الرجال ميسور والحمد لله

رابعاً: عدم التبرج من قبل النساء العاملات، ولزوم الحجاب الشرعي، بتغطية جميع البدن، بما في ذلك الوجه والكفين

خامساً: يحرم على الأطباء والطبيبات ومساعديهم النظر إلى العورات إلا عند الضرورة، وإذا دعت الضرورة فتقدر بقدرها، فلا ينظر إلا إلى موضع الحاجة على أنه يجب ألا يكشف على الرجل إلا رجل، ولا على المرأة إلا امرأة، إلا إذا لم يتيسر ذلك ودعت الضرورة فلا حرج في كشف أحدهما على الآخر، مع القيام بواجب الأمانة الشرعية، فلا ينظر إلا إلى موضع المرض، على أن يكون بحضرة من تنتفي معه الخلوة، وبالنسبة للمرأة المريضة فلابد من حضور وليها إذا تيسر ذلك

سادساً: يجب على جميع العاملين في المستشفيات عدم إفشاء أسرار المرضى، ولزوم الكتمان في هذه الأمور، فإن إفشاءها مع أنه خيانة للأمانة وهتك للأسرار فإنه يجر من الشرور ما لا يخفى

سابعاً: يجب على جميع العاملين عدم التشبه بالكفار، وقد ورد النهي صريحاً في تحريم ذلك، وعلى المسلم أن يعتز بدينه وانتمائه إليه، فلا يضعف ولا ينهزم

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

1439/3/10 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة
الدرس السابق
الدروس الكتابية المتشابهة الدرس التالي