الحديث السادس والأربعون: الحديث 36 جوامع الخير

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 30 رجب 1437هـ | عدد الزيارات: 2361 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
" عَنْ أَبي هُرَيرَة رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كرَبِ يَوم القيامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ على مُعسرٍ يَسَّرَ الله عَلَيهِ في الدُّنيَا والآخِرَة، وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ الله في الدُّنيَا وَالآخِرَة، وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَريقَاً يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طَريقَاً إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ يَتلونَ كِتابِ اللهِ وَيتَدارَسونهَ بَينَهُم إِلا نَزَلَت عَلَيهُم السَّكينَة وَغَشيَتهم الرَّحمَة وحَفَتهُمُ المَلائِكة وَذَكَرهُم اللهُ فيمَن عِندَهُ، وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ" رواه مسلم بهذا اللفظ

أهمية الحديث

قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: هو حديث جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب زاد ابن علان والفضائل والفوائد والأحكام

الشرح

قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَفسَ) أي أزال

قوله صلى الله عليه وسلم (عَنْ مُؤمِنٍ كُربَةً) الكربة ما يكرب الإنسان ويغتم منه ويتضايق

قوله صلى الله عليه وسلم (مِنْ كُربِ الدنيَا) أي من الكرب التي تكون في الدنيا وإن كانت من مسائل الدين، لأن الإنسان قد تصيبه كربة من كرب الدين فينفس عنه

إذ الكربة الشدة العظيمة التي توقع من نزلت فيه بغم شديد، وتشمل كرب المال وكرب البدن

قوله صلى الله عليه وسلم (نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القيامَة) الجزاء من جنس العمل أما من حيث النوع يختلف اختلافاً عظيماً، فكرب الدنيا لا تساوي شيئاً بالنسبة لكرب الآخرة، فإذا نفس الله عن الإنسان كربة من كرب الآخرة كان ثوابه أعظم من عمله

قوله صلى الله عليه وسلم (يَومِ القيامَة) هو الذي تقوم فيه الساعة، وسمي بذلك لثلاثة أمور

الأول: أن الناس يقومون فيه من قبورهم لله عزّ وجل، قال الله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) المطففين: 6

الثاني: أنه تقام فيه الأشهاد، كما قال الله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) غافر: 5

الثالث: أنه يقام فيه العدل، لقول الله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) الانبياء: 47

قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ يَسَّرَ) أي سهل

قوله صلى الله عليه وسلم (عَلَى مُعسَر) أي ذي إعسار، قال الله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) البقرة: 208، والمعسر من أثقلته الديون وعجز عن وفائها، والتيسير عليه مساعدته على إبراء ذمته من تلك الديون إما مباشرة من الدائن وإما من غيره

قوله صلى الله عليه وسلم (يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ) أي أموره وشؤونه، ويشمل هذا التيسير تيسير المال، وتيسير الأعمال، وتيسير التعليم وغير ذلك من أنواع التيسير

قوله صلى الله عليه وسلم (يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَة) ذكر الله الجزاء في موضعين: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة

قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً) أي أخفى وغطى، ومنه الستارة تخفي الشيء وتغطيه، والمقصود ستر مسلماً ارتكب ما يعاب عليه إما في المروءة والخلق، وإما في الدين والعمل، فإذا رآه على فعل قبيح لم يظهر أمره للناس ومن الستر عليه أن يستر زلاته والمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالفساد وهذا في ستر معصية وقعت وانقضت، أما إذا علم معصيته وهو متلبس بها فيجب المبادرة بالإنكار عليه ومنعه منها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إن لم يترتب على ذلك مفسدة فالمعروف بذلك لا يستر عليه لأن الستر على هذا يطمعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرمات وجسارة غيره على مثل ذلك

قوله صلى الله عليه وسلم (سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَة) لم يفضحه في الدنيا ولم يؤاخذه في الآخرة

قوله صلى الله عليه وسلم (وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ) عون العبد: إعانته وتسديده لقضاء شؤونه النافعة، أي أنك إذا أعنت أخاك كان الله في عونك كما كنت تعين أخاك

قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ سَلَكَ طَريقَاً) دخله ومشى فيه

قوله صلى الله عليه وسلم (يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً) أي يطلب علماً

قوله صلى الله عليه وسلم (سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَريقَاً إِلَى الجَنَّةِ) يعني سهل الله له هداية التوفيق بالطريق إلى الجنة

وللفائدة: محمد صلى الله عليه وسلم يهدي هداية الإرشاد، والله سبحانه يهدي هداية التوفيق

والمراد بالعلم هنا علم الشريعة وما يسانده من علوم العربية والتاريخ وما أشبه ذلك

أما العلوم الدنيوية المحضة كالهندسة وشبهها فلا تدخل في هذا الحديث

والجنة: هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه المتقين، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ) (ما) نافية بدليل أنها جاء بعدها (إلا) المثبتة، وبيوت الله هي المساجد، كما قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) النور: 36

قوله صلى الله عليه وسلم (يَتلونَ كِتَابَ الله) أي يقرؤونه لفظاً ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فالبحث في معاني القرآن

قوله صلى الله عليه وسلم (وَيَتَدَارَسونَهُ بَينَهُم) أي يدرس بعضهم على بعض هذا القرآن

قوله صلى الله عليه وسلم (إِلا نَزَلَت عَلَيهم السَّكينَة) أي طمأنينة القلب وانشراح الصدر

قوله صلى الله عليه وسلم (وَغَشيَتهم الرَّحمَة) أي غطتهم رحمة الله

قوله صلى الله عليه وسلم (وَحَفَّتهُم المَلائِكة) أي أحاطت بهم إكراماً لهم

قوله صلى الله عليه وسلم (وَذكرهُم اللهُ فيمَن عِنده) أي أن هؤلاء القوم الذين اجتمعوا في المسجد يتدارسون كلام الله عزّ وجل يذكرهم الله فيمن عنده، وهذا كقوله في الحديث القدسي (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) أخرجه البخاري ومسلم، فإذا ذكرت الله في ملأ بقراءة القرآن أو غيره فإن الله تعالى يذكرك عند ملأ خير من الملأ الذي أنت فيه

قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرع بِهِ نَسَبُهُ) بطأ: بمعنى أخَّر، والمعنى: من أخره العمل لم ينفعه النسب، لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات: 13، فمن كان عمله الصالح ناقصاً وقليلاً فقصر عن رتبة الكمال،( لم يسرع به نسبه) أي لا يعلي من شأنه شرف النسب ولا تبلغه وجاهة الآباء ما فاته وقصر عنه من المنازل العالية، التي يبلغها أصحاب الأعمال الكاملة عند الله عز وجل

فوائد الحديث

أولاً: الحث على تنفيس الكرب عن المؤمنين، وكل كربة تنفس بها عن المؤمن فهي داخلة في هذا الحديث من كرب مال، أو بدون أو غيرهما

ثانياً: الجزاء من جنس العمل، تنفيس بتنفيس، لكن الثواب أعظم الحسنة بعشر أمثالها

ثالثاً: وجوب التيسير على المعسر إذا كان الحق لك وتعرف أنه صادق في دعواه لقول الله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) ولغيرك سنة

رابعاً: الحث على ستر أصحاب الخلق والدين والهيئة وهذا خير

خامساً: الحث على عون أخيك المسلم إذا كان على بر وتقوى لقوله تعالى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

سادساً: بيان كمال الله عز وجل لأنه جعل الجزاء من جنس العمل، وأن تفريج الكربات والتيسير على المعسر وستر من يستحق الستر، هذه آداب ساقها الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن نتخلق بها

سابعاً: الحث على سلوك الطرق الموصلة للعلم بالترغيب فيما ذكر من ثوابه مع النية الخالصة لقوله صلى الله عليه وسلم (يلتمس فيه علماً) أي يطلب العلم لله

ثامناً: الطريق الموصل إلى العلم يشمل الطريق الحسي والمعنوي، والمعنوي مثل تلقي العلم من العلماء والمطالعة في الكتب والاستماع للأشرطة

تاسعاً: ينبغي الإٍسراع في إدراك العلم وذلك بالجد والاجتهاد للوصول للجنة

عاشراً: الأمور بيد الله عز وجل فلا تطلب التسهيل من غيره

الحادية عشرة: الحث على الاجتماع على كتاب الله وإن قرؤوا جميعاً بصوت واحد على سبيل التعلم فلا بأس أما على سبيل التعبد فبدعة

الثانية عشرة: إضافة المساجد إلى الله تشريفاً لها لأنها محل ذكره وعبادته

الثالثة عشرة: أن السكينة تنزل بقراءة القرآن وهي طمأنينة القلب والسرور

الرابعة عشرة: أن رحمة الله عز وجل تحيط بهؤلاء المجتمعين على كتاب الله فيحصل الثواب

الخامسة عشرة: تسخير الملائكة لبني آدم لقوله صلى الله عليه وسلم (وحفتهم الملائكة) فهذا الحف اكرام لهم

السادسة عشرة: إثبات الملائكة وهم عالم غيبي لهم أجسام وأرواح ولا يأكلون ولا يشربون

السابعة عشرة: علم الله عز وجل بأعمال العباد وأن الله يذكرهم عند الملائكة تنويهاً بهم ورفعة

الثامنة عشرة: أن النسب لا ينفع صاحبه إذا أخره عمله، أنظر إلى نسب أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/7/30 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر