الدرس السادس والعشرون: الحديث 16 النهي عن الغضب

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 13 ربيع الأول 1437هـ | عدد الزيارات: 2366 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوصِنِيْ، قَال: لاَ تَغْضَبْ فردد مراراً قال لا تغضب." رواه البخاري

أهميته

قال الجرواني إن هذا الحديث حديث عظيم وهو من جوامع الكلم لأنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة

شرح الحديث

رجلاً: قيل هو أبو الدرداء رضي الله عنه، فقد أخرج الطبراني عنه: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة قال: لا تغضب ولك الجنة. وقيل: هو جارية بن قدامة رضي الله عنه، فقد أخرج أحمد عنه أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، قل لي قولاً وأقللْ عليَّ لعلي أعقله قال:" لا تغضب." فأعدت عليه مراراً، كل ذلك يقول:" لا تغضب " ولا مانع من تكرار الحادثة وتعدد السائل

ونحن لا نجزم أنه أبو الدرداء أو جارية أو الاثنين لأنه لم يبين هذا الرجل في الحديث، وهذا يأتي كثيراً في الأحاديث لا يبين فيها المبهم، وذلك لأن معرفة اسم الرجل أو وصفه لايُحتاج إليه، مثل حديث يطلع عليكم رجل من أهل الجنة قالها ثلاثاً وفي كلها يطلع ذاك الرجل ولم يبين من هو غير أنه من الأنصار ثلاثة أيام يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلع ذاك الرجل والأحكام لا تتغير بمعرفة أسماء الرجال

قال للنبي صلى الله عليه وسلم (أوصني) الوصية هي العهد إلى الشخص بأمر هام، كما يوصي الرجل مثلاً على ثلث ماله أو ربعه أو خمسه أو على ولد صغير أو ما أشبه ذلك، فقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني أي دلني على عمل ينفعني

قال صلى الله عليه وسلم (لا تغضب) قال صاحب الإفصاح من الجائز أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من هذا الرجل كثرة الغضب فخصه بهذه الوصية وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الذي يملك نفسه عند الغضب فقال (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، ومدح الله من يملك نفسه عند الغضب بقوله (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) والغضب بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل فيغلي القلب ولذلك يحمرّ وجهه وتنتفخ أوداجه ويحمله هذا الغضب على الرغبة في البطش والإنتقام فقوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب) أي لا تنفذ مقتضى الغضب فلو غضب الإنسان وأراد أن يطلق امرأته فنقول له أصبر وتأن

وقد جاء في الحديث إن الغضب من الشيطان. رواه أحمد عن عطية السعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ

ولهذا يخرج به الإنسان من اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويرتكب المذموم وينوي الحقد والبغضاء وغير ذلك من القبائح المحرمة، كل ذلك من الغضب أعاذنا الله منه

وقد جاء في حديث سليمان بن صُرد: أن الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...". الحديث

فردد مراراً أي كرر الرجل طلبه للوصية عدة مرات فقال صلى الله عليه وسلم: لا تغضب

فقه الحديث وما يرشد إليه:

أولاً: حرص الصحابة رضي الله عنهم على ما ينفع، لقول الرجل (أَوصِنِيْ)، والصحابة رضي الله عنهم إذا علموا الحق لايقتصرون على مجرّد العلم، بل يعملون به، وبعض من الناس اليوم يسألون عن الحكم ويعلمونه ولكن لايعملون به، أما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم إذا سألوا عن الدواء عملوا به

ثانياً: أن المخاطب يخاطب بما تقتضيه حاله وهذه قاعدة مهمة، فإذا قررنا هذا لايرد علينا الإشكال الآتي وهو أن يقال: لماذا لم يوصه بتقوى الله عزّ وجل، كما قال الله عزّ وجل (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فالجواب: أن كل إنسان يخاطب بما تقتضيه حاله، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم علم من هذا الرجل أنه غضوب فأوصاه بذلك

مثال آخر: رجل أتى إليك وقال: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يصاحب الأشرار، فيصح أن تقول: أوصيك أن لا تصاحب الأشرار، لأن المقام يقتضيه، ورجل آخر جاء يقول: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يسيء العشرة إلى أهله، فتقول له: أحسن العشرة مع أهلك

ثالثاً: النهي عن الغضب، لقوله صلى الله عليه وسلم (لاَ تَغْضَبْ) لأن الغضب يحصل فيه مفاسد عظيمة إذا نفذ الإنسان مقتضاه، فكم من إنسان غضب فطلّق فجاء يسأل فإذا أحس بالغضب فالدواء اللفظي أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غضب غضباً شديداً فقال:" إِنِّي أَعلَمُ كَلِمَةً لوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَايَجِد يعني الغضب لَوقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ". أخرجه البخاري ومسلم

وأما الدواء الفعلي: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطّجع، لأن تغير حاله الظاهر يوجب تغير حاله الباطن، فإن لم يفد فليتوضّأ، لأن اشتغاله بالوضوء ينسيه الغضب، ولأن الوضوء يطفئ حرارة الغضب

ولا يلزم الاقتصار على هذا، بعض الناس يغادر المكان حتى لا يحدث ما يكره فيما بعد

رابعاً: أن الدين الإسلامي ينهى عن مساوئ الأخلاق لقوله صلى الله عليه وسلم (لاَ تَغضبْ) والنهي عن مساوئ الأخلاق يستلزم الأمر بمحاسن الأخلاق، فعوّد نفسك التحمل وعدم الغضب، فقد كان الأعرابي يجذب رداء النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤثر في رقبته صلى الله عليه وسلم ثم يلتفت إليه ويضحك. أخرجه أبو داود، مع أن هذا لو فعله أحد بآخر فأقل شيء أن يغضب عليه، فضلاً أن يفعل هذا بأحد الملوك أو الأمراء وأصحاب المناصب العالية والله المستعان، فعليك بالحلم ما أمكنك ذلك حتى يستريح قلبك وتبتعد عن الأمراض الطارئة من الغضب كالسكر، والضغط وما أشبهه

خامساً: الحلم وضبط النفس سبيل الفوز والرضوان فإذا غلب الطبع البشري، وثارت فيك قوى الشر، أيها المسلم الباحث عن النجاة، فإياك أن تعطي نفسك هواها، وتدع الغضب يتمكن منك فيكون الآمر والناهي لك، فترتكب ما نهاك الله عنه، بل جاهد نفسك على ترك مقتضى الغضب، وتذكر خلق المسلم التقي النقي، وتوجيه الله لك:" وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".

سادساً: الغضب جماع الشر والتحرر منه جماع الخير

سابعاً: الغضب ضعف والحلم قوة إذ سرعة الغضب والانقياد له عنوان ضعف الإنسان، ولو ملك السواعد القوية والجسم الصحيح

فالغضب خلق مذموم وطبع سيء وسلاح فتاك، إذا استسلم له الإنسان وقع صريع آثاره السيئة، التي تضر بالفرد والمجتمع تضر الفرد في بدنه بتعرضه للأمراض وفي دينه بالسب والشتم وتضر المجتمع بتولد الحقد في القلوب وإضمار السوء للناس

أسباب الغضب كثيرة ومتنوعة، منها: الكبر والتعالي والتفاخر على الناس، والهزء والسخرية بالآخرين، وكثرة المزاح ولا سيما في غير حق، والجدل والتدخل فيما لا يعني، والحرص على فضول المال أو الجاه والمسلم مندوب إلى أن يتخلص من هذه الأخلاق الذميمة، ويتسامى عنها، ويهذب نفسه على خلافها

معالجة الغضب:

أولاً: أن يروض نفسه ويدربها على التحلي بمكارم الأخلاق، كالحلم والصبر والتثبت في الأمور، والتأني في التصرف والحكم وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلم سعد بن سعنه من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثانياً: أن يثبت نفسه ويضبطها إذا أغضب، ويتذكر عاقبة الغضب، وفضل كظم الغيظ، "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".

ثالثاً: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:" وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ".

رابعاً: تغيير الحالة التي هو عليها حال الغضب، فقد روى أحمد وأبو داود: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلسْ، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجعْ." وذلك لأن القائم متهيء للانتقام وأقرب إليه، والجالس والمضطجع أبعد عنه

خامساً: ترك الكلام، لأنه ربما تكلم بكلام قوبل عليه بما يزيد من غضبه، أو تكلم بكلام يندم عليه بعد زوال غضبه، روى أحمد:" إذا غضب أحدكم فليسكتْ قالها ثلاثاً "

سادساً: الوضوء، وذلك أن الغضب يُثير حرارة في الجسم، فيميع الدم ويفور ويحدث سورة الجسم، والماء يبرده فيعود على طبعه، مع ملاحظة أن الوضوء عبادة فيها ذكر الله يخنس عندها الشيطان الذي يذكي نار الغضب في الإنسان، روى أحمد وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال:" إنَّ الغضبَ من الشيطان، وإنَّ الشيطانَ خُلق من النار، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"

أعاذنا الله وإياكم من الغضب وأكرمنا بالحلم إنه جواد كريم وبالإجابة جدير

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/3/13 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء في وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 122 ‌‌مكانة المرأة في الإسلام - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 121 الجزء الثالث عوامل النصر  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 120 الجزء الثالث ‌‌حكم الإسلام في إحياء الآثار - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 119 الجزء الثالث ‌‌القول بإباحة تحديد النسل مخالف للشريعة والفطرة ومصالح الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر