الدرس الثالث والعشرون: الحديث 13 كمال الإيمان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 12 ربيع الأول 1437هـ | عدد الزيارات: 2513 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

عَنْ أَبِيْ حَمْزَة أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ خَادِمِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري ومسلم

أهمية الحديث:

قال النووي رحمه الله تعالى، في شرحه لصحيح مسلم: قال الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن أبي زيد، إمام المالكية بالمغرب في زمنه: جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقوله صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية (لا تغضب) وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ولعل هذا هو السر في اختيار النووي رحمه الله تعالى هذه الأحاديث الأربعة في أربعينيته

وقال الجرداني في شرحه الأربعين النووية: إن هذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام

شرح الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم (لاَيُؤمِنُ أَحَدُكُمْ) أي لا يتم إيمانه فالنفي للكمال والتمام، وليس نفياً لأصل الإيمان لأن هذا العمل لا يخرج به الإنسان من الإيمان ولا يعتبر مرتداً وإنما هو من باب النصيحة فيكون النفي هنا نفياً لكمال الإيمان

ونحن ننكر على أهل التأويل تأويلهم الذي لا دليل عليه لأنه إذا لم يكن عليه دليل صار تحريفاً وليس تأويلاً أما التأويل الذي دل عليه الدليل فإنه يعتبر من تفسير الكلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) أخرجه الإمام أحمد أي التأويل الصحيح وإليك بعض الأمثلة

قال الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) النحل 98

المراد به إذا أردت قراءة القرآن وهذا تأويل صحيح لأنه دل الدليل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ عند القراءة لا في آخر القراءة

مثال آخر: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) المائدة: الآية6 إذا أردتم القيام إليها، فهذا تأويل صحيح لا مذموم، وعليه فلا ننكر التأويل مطلقاً، إنما ننكر التأويل الذي لا دليل عليه ونسميه تحريفاً

قوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم) الإيمان في اللغة هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان وهو مطابق للمعنى الشرعي

فهو إقرار القلب بما يرد عليه المستلزم للقبول والإذعان وليس مجرد التصديق

فمن أقر بدون قبول وإذعان فليس بمؤمن وعلى هذا فاليهود والنصارى اليوم ليسوا بمؤمنين لأنهم لم يقبلوا دين الإسلام ولم يذعنوا

وأبو طالب كان مقراً بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ويعلن ذلك ويقول

لقد علموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يُعني بقول الأباطل

ويقول

ولقد علمتُ بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

وهذا إقرار واضح ودفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ليس بمؤمن لفقده القبول والانقياد فلم يقبل الدعوة ولم ينقد لها ومات على الكفر والعياذ بالله

ومحل الإيمان: القلب واللسان والجوارح، فالإيمان يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح، أي أن قول اللسان يسمى إيماناً، وعمل الجوارح يسمى إيماناً، والدليل: قول الله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) قال المفسّرون: إيمانكم: أي صلاتكم إلى بيت المقدس وهذا قبل أن تكون القبلة إلى الكعبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأدنْاهَا إِمَاطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيْقِ وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيْمَانِ) أخرجه البخاري ومسلم

أعلاها قول لا إله إلا الله، هذا قول اللسان وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وهذا فعل الجوارح، والحياء عمل القلب

قوله صلى الله عليه وسلم (حَتَّى يُحَبَّ لأَخِيْه ما يحب لنفسه) من خير ودفع شر ودفاع عن العرض وغير ذلك، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ) أخرجه مسلم، الشاهد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ

فقه الحديث وما يرشد إليه

أولاً: جواز نفي الشيء لانتفاء كماله، لقوله صلى الله عليه وسلم : لايُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: لا يُؤمنُ مَنْ لا يَأَمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. أخرجه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: لاصَلاةَ بِحَضْرَةِ طَعَام. أخرجه مسلم أي لا صلاة كاملة، لأن هذا المصلي سوف يشتغل قلبه بالطعام الذي حضر

ثانياً: التحذير من الحسد، لأن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والحسد هو كراهة ما أنعم الله به على غيره وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول إذا كره العبد ما أنعم الله به على غيره فقد حسده وإن لم يتمن الزوال

ثالثاً: ينبغي صياغة الكلام بما يحمل على العمل به، لأن هذا من الفصاحة، والشاهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم (لأَخِيهِ) في قوله (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه) لأن هذا يقتضي العطف والحنان والرّقة، ونظيره قول الله عزّ وجل في آية القصاص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء) مع أنه قاتل، تحنيناً وتعطيفاً لهذا المخاطب

وهذا لا يصعب إذا مرّنت نفسك عليه، مرّن نفسك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك لا أن تطيع نفسك في هواها

ولا يعني ذلك أن يلقن الطالب زميله في الاختبار لأن هذا غش وهو في الحقيقة إساءة لأخيه وليس إحساناً عليه لأنه إذا عوده الخيانة اعتاد عليها ثم إنه يخدعه بذلك حيث يحمل شهادة ليس أهلاً لها

رابعاً: المجتمع غير الإيماني مجتمع أناني بغيض إذا ذبل الإيمان في القلوب وانتفى كماله انتفت محبة الخير للناس من النفوس، وحل محلها الحسد ونية الغش، وتمكنت الأنانية في المجتمع، وأصبح الناس ذئاباً بشرية، وفسدت الحياة، وساد الظلم، وتغلغل الحقد والمقت، وعمت الكراهية والبغض، وانطبق على مثل هذا المجتمع قول الله عز وجل: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ

خامساً: أفاد الحديث الحث على ائتلاف قلوب الناس، والعمل على انتظام أحوالهم

سادساً: الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

سابعاً: التنافس في الخير من كمال الإيمان لا من نقص الإيمان وليس من الحسد، أن يطلب المسلم من الله تعالى، أن يمن عليه بمثل الفضائل الأخروية التي فاقه بها غيره، ويجتهد أن يلحقه فيها، بل ذلك من كمال الإيمان، ومما قاله الله تعالى فيه: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ

ثامناً: المجتمع الفاضل ثمرة من ثمرات الإيمان وفي هذا الحديث حث منه صلى الله عليه وسلم لكل مسلم، أن يحمل نفسه على حب الخير للناس، ليكون ذلك برهاناً منه على كمال إيمانه وحسن إسلامه

تاسعاً: أن يحب لغيره من الخير المباح وفعل الطاعات ما يحبه لنفسه، وأن يبغض لهم من الشر والمعصية ما يبغضه لنفسه أيضاً، أخرجه أحمد من حديث معاذ رضي الله عنه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان فقال: أن تحبَّ للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وبالله التوفيق

1437/3/12 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر