أزمة الشباب

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 6 ذو القعدة 1436هـ | عدد الزيارات: 1968 القسم: خطب الجمعة

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه

أما بعد، أيها المسلمون

إن حضاراتُ الأُمم لا تُشادُ إلا بسواعِد أبنائِها ومرحلةُ الشباب مرحلةُ الفُتُوَّة والقوة والحماسَة، فإذا لم تُرشَّد هذه الحماسة انقلَبَت إلى غوغائيَّة وفوضويَّة، وجرَّت على صاحبِها الآهات والحسَرَات، وعلى الأمةِ الفتنَ المُوبِقات، والبلايا المُهلِكات

لذا أولَى الإسلامُ الشبابَ كاملَ العناية، والاهتمام والرعاية؛ لأنهم قلبُ الأمة النابِض، وشِريانُها المُتدفِّقُ عطاءً ونماءً

فهذا عليٌّ - رضي الله عنه - يحمِلُ الرايةَ يوم بدرٍ وهو ابن عشرين سنة

وأسامةُ يقودُ الجيشَ وهو ابن ثمانية عشر عامًا

والبحرُ الحَبرُ عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - مات النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعمرُه ثلاث عشرة سنة

وزيدُ بن ثابتٍ كان عُمرُه إحدى عشرة سنة حين قدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فكان كاتِبًا للوحي

ومُصعبُ بن عُمير الشابُّ الداعيةُ الذي ترك الدنيا كلَّها لله ورسولِه، والحسنُ والحُسينُ سيدا شباب أهل الجنة رضي الله عن جميع الصحب الأخيار وأرضاهم

أمة الإسلام

لئن كانت قضيةُ الاهتمام بالشباب ورعايتهم، وتحصينِهم وحمايتهم مهمةً في كل زمانٍ ومكانٍ، فإنها تزدادُ أهميةً وتأكيدًا في هذا العصر؛ حيث غلَبَ الانفِتاحُ والتساهُل، وتتابَعَ الغزوُ الفكريُّ والأخلاقيُّ، وتعدَّدت قنواتُه، وتنوَّعَت وسائلُه وآليَّاته وكم أسهمَ الإعلامُ المفتوحُ لاسيَّما الفضائيُّ منه في إذكاء نار الخلَل الفِكريِّ، وتفنَّن في جذب الأنظار، والتأثير على الرأي العام، مما جعلَ أمنَ الأمة الفِكريِّ عُرضةً للاهتِزاز ومهبِّ الأخطار

لقد أوحَت هذه الفضائيَّات وشبكاتُ التواصُل والمعلومات للناظرين وكأن هذه الدنيا أصبَحَت هدفًا للفوضَى الفكريَّة والأخلاقيَّة، ومسرحًا للضياع في مباءَات الإغراءات والرذيلَة والإباحيَّة، مما لا يحكمُه دينٌ ولا قِيَم، ولا يضبِطُه خُلُقٌ ولا مُثُل

أمة الإيمان

إن وجودَ أجيالٍ من الشباب دون حَصانةٍ حقيقيَّةٍ فاعِلةٍ، جريمةٌ في حقِّهم وحقِّ المُجتمع، وجِنايةٌ على الأمة بأسْرِها، لذلك كان حقًّا على أهل الإسلام أن يقوموا بمسؤوليَّاتهم في تحقيق هذا الأمر بكل ما أُوتوا من إمكانات، وأن يغرِسُوا في نفوسِ شباب الأمة التوحيدَ الخالِص لله، والعقيدةَ الصحيحةَ، والاعتصامَ بالكتاب والسنة، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.آل عمران:101.

كما أن على الآباء والمُربِّين أن يُسهِمُوا في تحصينِ الشباب، وترغيبِه في طلب العلم الشرعيِّ من أهلِه الموثوقين، ويحُثُّوهم على الالتِفافِ حول علماء الأمة الراسِخين، ويُحذِّروهم من الفتاوى الشاذَّّة المُحرِِّضة على العُنف وسفك الدماء المعصُومة

يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - "فأئمةُ المُسلمين والذين اتَّبعوهم وسائلُ وطرقٌ وأدلةٌ بين الناس وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يُبلِّغونهم ما قالَه، ويُفهِّمونهم مُرادَه، بحسب اجتِهادهم واستِطاعتهم"

كما يتحتَّمُ - يا رعاكم الله - توعيةُ الشباب بالتحديات التي تُواجِهُهم في عصرٍ رفعَ الصهاينةُ المُعتَدون عقيرتَهم في انتِهاك حُرمة المسجد الأقصى واستِفزاز مشاعِر المُسلمين

وفي زمنٍ طغَت فيه فتنُ الشهوات من الفضائيات والإلكترونيات، وشبكات المعلومات ومواقع التواصُلات، والتي جرَّت الفتنَ إلى الأُسَر والبيوت والمُجتمعات، فقوَّضَت أركانَها، وصدَّعَت شامِخ بُنيانها

يا شباب الأمة وعمادَ حياتها، وقلوبها النابِضة، وعقودَها المُتلألئة يا بُناةَ الحضارة، وصُنَّاع الأمجاد، وثمرات الفؤاد، وفلَذَات الأكباد تمسَّكوا بقِيَم الدين، وخُلُقه الرَّصين، ولا تغُرَّنكم الثقافاتُ المُستورَدَة الهَجينة، والأفكار الدَّخيلة، والمناهِجُ الهَزيلة

ولا تنشغِلُوا بالأسماء عن المُسمَّيات، وتحرَّوا تحريرَ المُصطلحات على منهج السلَف الأثبات؛ كالولاء والبراء، والجهاد والردَّة والتكفير والحريات فالإسلامُ الحقُّ هو صانِعُ الحضارة، وموئِلُ القِيَم والفضائل، والمهدُ البديعُ لشُمِّ المُثُل والشمائل، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.آل عمران:110.

وليس بخافٍ عليكم ما يتناوَشُ الأُمةَ من مِحَنٍ وخُطوبٍ ورزايا، وفتنٍ وكُروبٍ وبلايا، أزَّتها نحو المآسِي أزًّا

وإن أمتَكم الإسلامية لفي لهَفٍ إلى وَثبَتكم الرشيدة لإقالَتها من هذه الوِهاد، فلا تغترُّوا بالشِّعارات الزائِفة البرَّاقة، والمناهِج الضالَّة المرَّاقة، وليسَعكم ما وسِعَ سلفَكم الصالحين، وعلماءَكم الربَّانيين

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.التحريم:6

باركَ الله لي ولكم في الوحيَين، ونفَعني وإياكم بهديِ سيِّد الثَّقَلَين، هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إن ربي لغفورٌ الرحيم.هود:41.

الخطبة الثانية

الحمدُ لله على نعمٍ أثنَت بها الجوارِحُ والسرائِر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً لهجَت بها الألسنُ والضمائِر، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أزكَى الأوائِل والأواخِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذرِّيَّته النجوم الزواهِر، وصحابتِه البالِغين أسمَى البشائِر، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين

أما بعد، عباد الله

اتَّقوا الله حقَّ التقوى؛ فإنها الذُّخرُ الأبقَى، والسعادةُ التي ما دُونَها فوزٌ ولا فوقَها مرقَى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى

إخوة الإيمان

إن من أولَى ما يجبُ الاهتمامُ به وإيلاؤُه أوفرَ العناية في هذا المُنعطَفِ التأريخ المهم تحصينَ مدارِك الشباب وثقافتِهم بأحكام الحُدود الشرعيَّة؛ كتحريم قتل النفس المعصُومة، وحكم الاعتِداء على المُعاهَدين وأهل الذِّمَّة، وخُطورة أمر التكفير والغُلُوِّ والتطرُّف، وإطلاق الأحكام جُزافًا، وترويع الآمِنين وانتِهاك حُرماتهم، وسلبِ أموالهم

والتحذير من آفة العصر المُخدِّرات وتعاطِيها وترويجِها، حمايةً لهم ولمُجتمعاتهم وأوطانِهم وأمَّتهم من أنصافِ المُتعلِّمين، وسِهام المُغرِضين، وشِباك الخُصوم الحاقِدين

والعِبءُ في ذلك يقعُ على عاتق العلماء والدعاة، ورجال التربية والفِكر والإعلام، وحمَلَة الأقلام، انتِشالاً للجيل من حَومَة الضياع ومسالِك الضلال، وأخذًا بُحجَزهم عن الهُوِيِّ في سرادِيبِ الأفكار النَّشاذ، وإحباطًا لخطط الخُصوم، الذين يتَّخِذون الأحداثَ غرضًا وهدفًا لتحقيق مآربِهم المشبُوهة

وبالتوجيه الرَّقيق، والترشيد اللطيف الرَّفيق، وتلاحُم أفراد الأُسرة والمُجتمع مع أبنائِهم وتراحُمهم، وفتح قنوات الحوارِ الهادِئ الهادِف، وملئِ فراغِهم بالبرامِج النافعةِ المُفيدة ليتحقَّقُ للمُجتمع ما يصبُو إليه من تحصينِ الشباب وحراستِهم من المُؤثِّرات العقدية، واللَّوثات الفكريَّة، والتجاوُزات الأخلاقية والسلوكية، حِفاظًا على دينهم، وصيانةً لعقيدتهم وسلامة أخلاقهم، والعمل على وضعِ خُططٍ حازِمة لترشيد التعامُل مع وسائل التواصُل، والاستِثمار الإيجابيِّ الأمثَل لها

ومهما يكُ من شيءٍ فإن شبابَ الأمة في خيرٍ بحمد الله، ولن يُؤثِّر جمعٌ أُصيبَ باليأس والإحباط، ووقعَ في الغُلوِّ والجفاء، على المجمُوع المُعتدِل المُؤثِر للإعمار والبناء والنَّماء

حمَى الله شبابَ المُسلمين من كل سُوءٍ ومكروهٍ، وحفِظَ علينا أمنَنا، وعقيدتَنا وقيادَتنا، إن ربي قريبٌ مُجيب

هذا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على نبيكم، كما أمرَكم بذلك ربُّكم - جل وعلا -، فقال عزَّ من قائل إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.الأحزاب:56.

وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجَه مُسلمٌ في "صحيحه" - "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.رواه مسلم.، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد ، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقّّّ إمامَنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوَى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين

اللهم ادفَع عنَّا الغلا والوبَا، والرِّبا والزِّنا، والزلازِل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم أصلِح شبابَ المُسلمين، اللهم ارزُقهم الوسطيَّة والاعتِدال إنك أنت الكبير المُتعَال

اللهم انصُر إخواننا المُجاهِدين في سبيلِك في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين على اليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بالصهايِنة المُعتَدين الذين انتهَكوا حُرمةَ مُقدَّسات المُسلمين، واستفزُّوا مشاعِر المُؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعَلهم عبرةً للمُعتبرين

اللهم وفِّق رِجالَ أمننا المُرابِطين على حُدود وثُغور بلادنا، اللهم وفِّقهم وأعِنهم، اللهم تقبَّل شُهداءَهم، واشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، ورُدَّهم جميعًا إلى أهلِهم سالِمين غانِمين يا رب العالمين

اللهم تقبَّل منا صالحَ الأعمال برحمتِك يا أرحم الراحمين

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.البقرة:201.

سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين والحمدُ لله رب العالمين.الصافات:180-182.

5-11-1436 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 4 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي