الدرس 241: تأويل الصفات

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 16 رجب 1436هـ | عدد الزيارات: 2138 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

التأويل ثلاثة معان:

الأول: مآل الشيء وحقيقته التي يؤول إليها، كما في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام "هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ" (يوسف 100) أي حقيقتها التي آلت إليها وقوعا

الثاني: التأويل بمعنى صرف الكلام عن معناه الظاهر المتبادر منه إلى معنى خفي بعيد لقرينة، وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء الكلام وأصول الفقه

الثالث: التأويل بمعنى التفسير وهو شرح معنى الكلام بما يدل عليه ظاهره ويتبادر إلى ذهن سامعه الخبير بلغة العرب وهو المقصود هنا، فإن جملة "الحجر الأسود" يمين الله في الأرض" ليس ظاهرها أن الحجر صفة لله وأنه يمينه حتى يصرف عنه، بل معناه الظاهر منه أنه كيمينه بدليل بقية الأثر وهو جملة: "فمن صافحه فكأنما صافح الله، ومن قبله فكأنما قبل يمين الله" فمن ضم أول الأثر إلى آخره تبين له أن ظاهره مراد لم يصرف عنه وأنه حق، وهذا ما يقوله أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره منهم، وهو تأويل بمعنى التفسير لا بمعنى صرف الكلام عن ظاهره، كما زعمه المتأخرون، علما بأن ما ذكر لم يصح حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا القول في حديث "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فإن ظاهره لا يدل على مماسة ولا مداخلة وإنما يدل ظاهره على إثبات أصابع للرحمن حقيقة، وقلوب للعباد حقيقة، ويدل إسناد أحد ركني الجملة إلى الآخر على كمال قدرة الرحمن وكمال تصريفه لعباده كما يقال: فلان وقف بين يدي الملك أو في قبضة يد الملك. فإن ذلك لا يقتضي مماسة ولا مداخلة وإنما يدل ظاهره على وجود شخص وملك له يدان، ويدل ما في الكلام من إسناد على حضور شخص عند الملك وعلى تمكن الملك من تصريفه دون مماسة أو مداخلة، وكذا القول في قوله تعالى "بِيَدِهِ الْمُلْكُ" (الملك 1) وقوله "تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا" (القمر 14)وأمثال ذلك

ثانيا: تقسيم أهل السنة والجماعة إلى طائفتين بهذا الشكل غير صحيح وبيانه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أمة واحدة عقيدة وسياسة حتى إذا كانت خلافة عثمان رضي الله عنه بدرت بوادر الاختلاف في السياسة دون العقيدة، فلما قتل وبايع عليا جماعة وبايع معاوية آخرون رضي الله عنهم وكان ما بينهم من حروب سياسية خرجت عليهم طائفة فسميت: الخوارج ولم يختلفوا مع المسلمين في أصول الإيمان الستة ولا في الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام وإنما اختلفوا معهم في عقد الخلافة والتكفير بكبائر الذنوب والمسح على الرجلين في الوضوء وأمثال ذلك، ثم غلت طائفة من أصحاب علي فيه حتى عبده منهم من عبده فسموا الشيعة ، ثم افترق كل من الخوارج والشيعة فرقا، ثم أنكر جماعة القدر، وكان ذلك آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم فسموا القدرية، ثم كان الجعد بن درهم فكان أول من أنكر صفات الله وتأول ما جاء فيها من نصوص الآيات والأحاديث على غير معانيها فقتله خالد القسري ، وتبعه في إنكار ذلك وتأويله تلميذه الجهم بن صفوان واشتهر بذلك فنسبت إليه هذه المقالة الشنيعة، وعرف من قالوا بها بالجهمية، ثم ظهرت المعتزلة وتبعوا الجهمية في تأويل نصوص الصفات وسموه تنزيها، وتبعوا القدرية في إنكار القدر وسموه عدلا، وتبعوا الخوارج في الخروج على الولاة وسموه الأمر بالمعروف إلى غير ذلك من مقالاتهم، وقد نشأ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري على مذهبهم واعتقد مبادئهم ثم هداه الله إلى الحق فتاب من الاعتزال ولزم طريق أهل السنة والجماعة ، واجتهد في الرد على من خالفهم في أصول الإسلام رحمه الله، لكن بقيت فيه شوائب من مذهب المعتزلة كتأويل نصوص صفات الأفعال وتأثر بقول جهم بن صفوان في أفعال العباد، فقال بالجبر وسماه: كسبا، وأمور أخرى تتبين لمن قرأ كتابه "الإبانة" الذي ألفه آخر حياته

مما تقدم يتبين أن أهل السنة والجماعة حقا هم الذين اعتصموا بكتاب الله تعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في عقائدهم وسائر أصول دينهم، ولم يعارضوا نصوصهما بالعقل أو الهوى، وتمسكوا بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من دعائم الإيمان وأركان الإسلام فكانوا أئمة الهدى ومنار الحق ودعاة الخير والفلاح؛ كالحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد وأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق والبخاري ومن سلكوا سبيلهم والتزموا نهجهم عقيدة واستدلالا

وأبو الحسن الأشعري وأصحابه بعد أن رجع عن الاعتزال وسلك طريق أهل السنة إلا في قليل من المسائل لذا كان أقرب إلى طريقة أهل السنة والجماعة من سائر الطوائف

ثالثاً: موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك

وأما عن قول أهل السنة والجماعة في الإيمان فهو قول باللسان وعمل بالأركان وتصديق بالجنان، ولا يكتفى في ذلك بالنطق باللسان إلا في إجراء أحكام الدنيا من تغسيله إذا مات وتكفينه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك من أحكام الدنيا إذا لم يعلم منه ما يقتضي كفره، وأما شهادة ألا إله إلا الله فمعناها لا معبود حق إلا الله ولا يكفي مجرد القول، بل لا بد من الإيمان بالمعنى والعمل بالمقتضى، كما قال تعالى:" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ" (الحج 62)

والمطلوب منك أيها المسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره، على ما بينه الله في كتابه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته مع الالتزام بأركان الإسلام الخمسة والإيمان بها وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت، والإيمان بأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة دون سواه وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله، كما قال تعالى "وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ " (الحج 62)مع الإيمان بأسماء الله سبحانه وصفاته الواردة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإثباتها لله سبحانه على الوجه اللائق به، كما قال تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى 11)

والأنبياء والرسل قد يخطئون، ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم، بل يبين لهم خطأهم؛ رحمة بهم وبأممهم، ويعفو عن زلتهم، ويقبل توبتهم؛ فضلا منه ورحمة، والله غفور رحيم

ولا يعلم عدد الأنبياء والرسل إلا الله؛ لقول الله تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ" (غافر 78)

وأجساد الأنبياء قد حرمها الله على الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" رواه أبو داود والنسائي

مع العلم بأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لم يمت وإنما رفع إلى السماء وسينزل في آخر الزمان ثم يموت، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولا يجوز تمثيل الرسل والأنبياء وهذا لازم لتصوير قصصهم فلا يجوز الإقدام على ذلك؛ لما يترتب عليه من المفاسد، وقد صدر قرار من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في هذا الموضوع يتضمن بيان تحريم ذلك

قلت: بل وقد صدر فتوى من اللجنة الدائمة بتحريم التمثيل بصفة عامة والنظر إليه لأنه مبني على الكذب

بعد أن عاتب الله تعالى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة عائشة وحفصة ختم سورة التحريم بمثلين، مثل ضربه للذين كفروا بامرأتين كافرتين: امرأة نوح وامرأة لوط ، ومثل للذين آمنوا بامرأتين صالحتين: بآسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران وبين سبحانه أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين وكانتا تحت رسولين كريمين وكانت امرأة نوح تخونه بدلالة الكفار على من آمن بزوجها، وكانت امرأة لوط تدل الكفار على ضيوفه، إيذاء وخيانة لهما كما دلت على أن زواج المؤمن بالكافرة كان مباحا في الشرائع السابقة وكذا زواج الكافر بالمؤمنة

قلت: أما في الإسلام فإنه يعلو ولا يعلى عليه لذا لا يجوز للكافر أن يتزوج مؤمنة والمؤمن يتزوج من الكفار الكتابية المحصنة غير أنه لا توارث بينهما ولا يعقد الأب الكافر لابنته المؤمنه

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

1436-07-15 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة
الدرس السابق
الدروس الكتابية المتشابهة الدرس التالي