تفسير سورة لقمان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 21 جمادى الأولى 1439هـ | عدد الزيارات: 1800 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة لقمان مكية ، وآياتها 34

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)

قوله (الم) سبق الكلام عن الحروف المقطعة

(تلك آيات الكتاب الحكيم) هذه الآيات آيات القرآن ذي الحكمة البالغة .

(هدى ورحمة للمحسنين) جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين.

(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة، وأعطوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا قراباتهم وأرحامهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراءُوا به ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكورا، فمن فعل ذلك فهو من الذين قال الله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم) أي: على بصيرة وبينة ومنهج واضح وجلي، (وأولئك هم المفلحون) أي: في الدنيا والآخرة .

ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم (7)

لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، ، عطف بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله فقال(ومن الناس من يشتري لهو الحديث) وهو كل ما يلهي عن طاعة الله، ويصد عن مرضاته (ليضل عن سبيل الله) ليضل الناس عن طريق الهدى إلى طريق الهوى .

وقوله: (ويتخذها هزوا) يسخر بآيات الله .

فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في الحق والاستهزاء به، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه من القول الذي لا يميزه ذلك الضال ولا يعرف حقيقته (أولئك لهم عذاب مهين) بما ضلوا وسخروا بآيات الله وكذبوا الحق الواضح أهينوا يوم القيامة، بالعذاب الدائم المستمر

ثم قال تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا) ليؤمن بها وينقاد لها (ولَّى مستكبرا) أي: أدبر إدبار المستكبر عنها راد لها ولم تدخل قلبه، ولا أثرت فيه (كأن لم يسمعها) بل (كأن في أذنيه وقرا) أي: صمما لا تصل إليها الأصوات (فبشره) بشارة تورث في قلبه الحزن والغم، وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة (بعذاب أليم) مؤلم لقلبه وبدنه .

فهذه بشارة أهل الشر، فلا نعمت البشارة .

إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9)

هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة، الذين ءامنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة المتابعة لشريعة الله (لهم جنات النعيم) أي: يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسار، من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب والنساء، والنضرة والسماع الذي لم يخطر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون دائما فيها، لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا .

وقوله: (وعد الله حقا) أي: هذا كائن لا محالة، لأنه من وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، لأنه الكريم المنان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء، (وهو العزيز) ،الذي قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، (الحكيم) في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين

خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنـزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11)

يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال: (خلق السماوات بغير عمد ترونها) أي: ليس لها عمد، ولو كان لها عمد لرئيت، وإنما استقرت واستمسكت بقدرة الله تعالى .

(وألقى في الأرض رواسي) يعني: الجبال أرست الأرض وثقلتها (أن تميد بكم) فلولا الجبال الراسيات لمادت الأرض ولما استقرت بساكنها .

وقوله: (وبث فيها من كل دابة) أي: وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها .

ولما قرر أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى (وأنـزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي: من كل زوج من النبات كريم، أي: حسن المنظر .

وقوله: (هذا خلق الله) أي: هذا الذي ذكره تعالى من خلق السماوات، والأرض وما بينهما، صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره، وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال: (فأروني ماذا خلق الذين من دونه) أي: مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد ، (بل الظالمون) يعني: المشركين بالله العابدين معه غيره (في ضلال) أي: جهل وعمى، (مبين) أي: واضح ظاهر لا خفاء به .

ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد (12)

وقوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان بالحكمة وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام ومعرفة ما فيها من الأسرار، فقد يكون الإنسان عالما، ولا يكون حكيما، وأما الحكمة، فهي مستلزمة للعلم والعمل، لهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع والعمل الصالح (أن اشكر لله) أي: أمرناه أن يشكر الله، عز وجل، على ما أتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل، الذي خصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه .

ثم قال تعالى: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) أي: إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين .

وقوله: (ومن كفر فإن الله غني حميد) أي: غني عن العباد، لا يتضرر بذلك، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا، فإنه الغني عمن سواه، فلا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه .

وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (15)

يقول تعالى مخبرا عن وصية لقمان لولده - وقد ذكره تعالى بأحسن الذكر، فإنه آتاه الحكمة، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف، ولهذا أوصاه أولا بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا، ثم قال محذرا له: (إن الشرك لظلم عظيم) أي: هو أعظم الظلم .

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نـزلت: (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الأنعام: (82)، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) .

ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده بالبر بالوالدين فقال . (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق من حين يكون نطفة من الوحم والمرض والضعف والثقل وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد .وقوله: (وفصاله في عامين) أي: مدة الرضاعة في عامين.

يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا، ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه فقال تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر الجزاء وقوله: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) أي: إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا، أي: محسنا إليهما، (واتبع سبيل من أناب إلي) يعني: المؤمنين، (ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) ، روى مسلم عن مصعب عن أبيه سعد بن أبي وقاص أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال : حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت زعمتَ أن الله وصاك بوالديك وأنا أمُك وأنا آمرُك بهذا قال : مكثتْ ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية : ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك على أن تشرك بي وفيها وصاحبهما في الدنيا معروفا قال : وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله فقال رُدَّه من حيثُ أخذتَه فانطلقتُ حتى إذا أردتُ أن ألقيه في القبض لامتْني نفسي فرجعتُ إليه فقلتُ أعْطِنيه قال فشد لي صوته رده من حيث أخذته قال فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الأنفال قال : ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت دعني أقسم مالي حيث شئت قال فأبى قلت فالنصف قال فأبى قلت فالثلث قال فسكت فكان بعد الثلث جائزا قال وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا تعال نطعمك ونسقك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر قال فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال فأكلت وشربت معهم قال فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت المهاجرون خير من الأنصار قال فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله عز وجل فيَّ يعني نفسه شأن الخمر إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان .

قوله : يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16) يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (17) ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كلَ مختالِ فخور (18) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)

هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل) أي: إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل (يأت بها الله) أي: يحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، ويجازى عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال: (إن الله لطيف خبير) أي: لطف في علمه وخبرته، حتى اطلع على البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار، فهو خبير بدبيب النمل في الليل البهيم، والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته مهما أمكن، والترهيب من العمل القبيح قل أو كثر، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت .

ثم قال: (يا بني أقم الصلاة) أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها، (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) أي: بحسب طاقتك وجهدك، (واصبر على ما أصابك) ،علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا بد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر .

وقوله: (إن ذلك من عزم الأمور) أي: إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور .

وقوله: (ولا تصعر خدك للناس) يقول: لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارا منك لهم، واستكبارا عليهم ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم .

وقوله: (ولا تمش في الأرض مرحا) أي: جذلا متكبرا جبارا عنيدا، لا تفعل ذلك يبغضك الله، ولهذا قال: (إن الله لا يحب كلَ مختالِ فخور) أي: مختال معجب في نفسه، فخور: أي على غيره

وقوله: (واقصد في مشيك) أي: امش مشيا مقتصدا ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلا وسطا بين بين .

وقوله: (واغضض من صوتك) أي: لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، ولهذا قال تعالى: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) أي: أفظعها وأبشعها لصوت الحمير، أي: غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي ذمه غاية الذم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) رواه مسلم

وروى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا، وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله) .

فهذه وصايا نافعة جدا، وهي من قصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة .

روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه) صححه أحمد شاكر .

ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (20) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21)

(أَلَمْ تَرَوْا) أي: تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم، (أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) من الشمس والقمر والنجوم، كلها مسخرات لنفع العباد (وَمَا فِي الأرْضِ) من الحيوانات والأشجار والزروع، والأنهار والمعادن .

(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) أي: عمّكم وغمركم بوافر (نعمه ظاهرة وباطنة) التي نعلم بها، والتي تخفى علينا، نعم الدنيا، ونعم الدين، حصول المنافع، ودفع المضار، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم، بمحبة المنعم والخضوع له، وصرفها في الاستعانة على طاعته، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته .

(ومنَ النَّاسِ مَنْ) لم يشكرها، بل كفرها، وكفر بمن أنعم بها، وجحد الحق الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، فجعل (يُجادِلُ فِي اللَّهِ) أي: يجادل عن الباطل، ليدحض به الحق، ويدفع به ما جاء به الرسول من الأمر بعبادة اللّه وحده، وهذا المجادل على غير بصيرة، فليس جداله عن علم (وَلا هُدًى) بغير حجة ولا بيان (وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) غير مبين للحق فلا معقول ولا منقول ولا اقتداء بالمهتدين وإنما جداله في اللّه مبني على تقليد آباء غير مهتدين، بل ضالين مضلين .

ولهذا قال (وإذا قيل لهم) أي: لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: (اتبعوا ما أنـزل الله) أي: على رسوله من الشرائع المطهرة، (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) أي: لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين، قال: (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) ، أيفعلون ذلك ولو كان الشيطان يدعوهم - بتزيينه لهم سوء أعمالِهم وكفرَهم بالله - إلى عذاب النار المستعرة ؟!

ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور (22) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24)

يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله، أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال: (وهو محسن) أي: في عمله، باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) ومن يخلص عبادته لله وقصده إلى ربه تعالى، وهو محسن في أقواله متقن لأعماله، فقد أخذ بأوثق سبب موصل إلى رضوان الله وجنته (وإلى الله عاقبة الأمور) وإلى الله وحده تصير كل الأمور، فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته (ومن كفر فلا يحزنك كفره) لأنك أديت ما عليك من الدعوة والبلاغ، فإذا لم يهتد، فقد وجب أجرك على الله، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه، لأنه لو كان فيه خير لهداه الله (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) من كفرهم وعداوتهم وسعيهم في إطفاء نور الله وأذى رسله (إن الله عليم بذات الصدور) التي ما نطق بها الناطقون، فكيف بما ظهر وكان شهادة، فلا تخفى عليه خافية .

ثم قال: (نمتعهم قليلا) أي: في الدنيا ، (ثم نضطرهم) أي: نلجئهم (إلى عذاب غليظ) أي: فظيع صعب مشق على النفوس .

ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25) لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد (26)

يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء المشركين به : إنهم يعرفون أن الله خالق السماوات والأرض، وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له، ولهذا قال: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله) أي: إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم (بل أكثرهم لا يعلمون) .

ثم قال: (لله ما في السماوات والأرض) أي: هو خلقه وملكه، (إن الله هو الغني الحميد) أي: الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، الحميد في جميع ما خلق، له الحمد في السماوات والأرض على ما خلق وشرع، وهو المحمود في الأمور كلها.

ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27) ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28)

يقول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وجلاله، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا يطلع بشر على كنهها وإحصائها، فقال تعالى: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادا ومده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مددا .

وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر

وقوله: (إن الله عزيز حكيم) أي: عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، (حكيم) في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شؤونه .

وقوله: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) أي: ما خَلْقُ جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة، الجميع هين عليه .

وقوله: (إن الله سميع بصير) أي: كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة، ولهذا قال: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) .

ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30)

يخبر تعالى أنه (يولج الليل في النهار) بمعنى: يأخذ منه في النهار، فيطول ذلك ويقصر هذا، وهذا يكون زمن الصيف يطول النهار إلى الغاية، ثم يسرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار، وهذا يكون في زمن الشتاء، (وسخر الشمس والقمر كلٌ) منهما (يجري إلى أجل مسمى) إذا جاء ذلك الأجل انقطع جريانهما وتعطل سلطانهما، وذلك في يوم القيام، حين تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنتهي دار الدنيا، وتبتدئ الدار الأخرة .

وقوله: (وأن الله بما تعملون خبير) أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء .

وقوله: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) أي: إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق، أي: الموجود الحق، الإله الحق، وأن كل ما سواه باطل فإنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه ، لأن كل ما في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك، ولهذا قال: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير) أي: العلي: الذي لا أعلى منه، الكبير: الذي هو أكبر من كل شيء، فكل شيء خاضع حقير بالنسبة إليه .

ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور (32)

يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر لتجري فيه الفلك بأمره، أي: بلطفه وتسخيره، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت، ولهذا قال: (ليريكم من آياته) أي: من قدرته، (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) أي: صبار في الضراء، شكور في الرخاء .

ثم قال: (وإذا غشيهم موج كالظلل) أي: علتهم الأمواج من حولهم كالسحب والجبال (دعوا الله مخلصين له الدين) فزعوا إلى الله وأخلصوا دعاءهم له .

ثم قال: (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) هو المتوسط في العمل، حيث لم يقم بشكر الله على وجه الكمال .

وقوله: (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور): فالختار: هو الغدار، وهو الذي كلما عاهد نقض عهده، والختر: أتم الغدر وأبلغه، (كفور) أي: جحود للنعم لا يشكرها، بل يتناساها ولا يذكرها .

يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازعن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور(33)

يقول تعالى منذرا للناس يوم المعاد، وآمرا لهم بتقواه والخوف منه، والخشية من يوم القيامة حيث (لا يجزي والد عن ولده) أي: لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يتقبل منه .

ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) أي: لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة (ولا يغرنكم بالله الغرور) الذي هو الشيطان، مازال يخدع الإنسان، ولا يغفل عنه في جميع الأوقات، فإن لله على عباده حقا، وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه، وهل وفوا حقه أم قصروا فيه، وهذا أمر يجب الإهتمام به، وأن يجعله العبد نصب عينيه ورأس مال تجارته التي يسعى إليها، ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه الدنيا الفتانة، والشيطان الموسوس المسول، فنهى تعالى عباده أن تغرنهم الدنيا أو يغرنهم بالله الغرور .

إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)

هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فضلا عن غيرهما (إن الله عنده علم الساعة) أي: يعلم متى مرساها وموعدها ، (وينزل الغيث) أي: هو المنفرد بإنزاله وعلم وقت نزوله (ويعلم ما في الأرحام) فهو الذي أنشأ ما فيها وعلم ما هو، هل هو ذكر أم أنثى، ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه هل هو ذكر أم أنثى، فيقضي الله ما يشاء (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) من كسب دينها ودنياها (وما تدري نفس بأي أرض تموت) في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك ، ولما خصص هذه الأشياء عمَّم علمه بجميع الأشياء فقال (إن الله عليم خبير) محيط بالظواهر والبواطن والخفايا والخبايا والسرائر .

روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)

ومن حكمته التامة أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك، وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس: مفاتيح الغيب .

وبالله التوفيق .

تم تفسير سورة لقمان ، ولله الحمد والمنَّة .

20 - 5 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر