الدرس الثاني والخمسون: الحديث 42 سعة مغفرة الله

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 9 ذو الحجة 1437هـ | عدد الزيارات: 2737 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَة " . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحَيْحٌ.

راوي الحديث

أنس بن مالك بن النضْر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام المفتي المقرئ المحدث كنيته أبو حمزة

وأمه الرميضاء أم سليم بنت ملحان الأنصارية

ولد أنس بن مالك قبل عام الهجرة بعشر سنوات وكان في العشرين عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من فقهاء الصحابة وعلماء الإسلام

ومات وله من الأولاد 106، وعمره 103، كان يمتلك بستاناً من الفاكهة يثمر مرتين في العام

روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ألفان ومئتان وستة وثمانون حديثًا، اتفق له البخاري ومسلم على مئة وثمانين، انفرد البخاري بثمانين ومسلم بتسعين

ولد في يثرب، وتوفى سنة 93 من الهجرة بالبصرة في العراق

اشتهر أنس بالعلم والفقه والتبحر في علوم الدين

خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين ولازمه عشر سنين أهدته أمه للنبي صلى الله عليه وسلم لخدمته، وقالت ادع له، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته) فكان رضي الله عنه من أكثر الناس مالاً وطال عمره وهو آخر من توفى من الصحابة

البراء بن مالك هو أخو أنس بن مالك لأبيه وأمه والأخ الثاني له زيد بن مالك

كان تسمى بخادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتخر بذلك

شارك في غزوة بدر وخيبر وحنين وفتح مكة وشهد بيعة الرضوان وشارك في حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستخدمه أبو بكر في جمع الصدقات

اشتهر من أبناء أنس، 1- أبو بكر، 2- النضر، 3- أمينة، 4- عبد الله، 5-عمر، 6-عبيد الله، 7-زيد، 8- عكرمة، 9-الربيع، 10- ثمامة، 11-يحيى، 12-خالد، 13-موسى، 14-حفصة، 15-عائشة، 16-العلاء، 17-أبو عمير،18-البراء، 19-عمرو، 20-رمله، 21-أم حرام، 22-مالك، 23-محمد، 24-أم عمرو

ومات الكثير منهم صغاراً من مرض الطاعون بالعراق

الشرح

هذا حديث قدسي والحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم

وفي هذا الحديث بشارة عظيمة وحلم وكرم عظيم وما لا يحصى من أنواع الفضل والإحسان والرأفة والرحمة والامتنان، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم (للهُ أفرح بتوبة عبده من أحد كم بضالته لو وجدها) رواه مسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم

قوله تعالى (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني) هذا موافق لقوله (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) رواه البخاري، وقد جاء (أن العبد إذا أذنب ثم ندم فقال: أي ربي أذنبت ذنباً فاغفر لي ولا يغفر الذنوب إلا أنت قال: فيقول الله تعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنوب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت له ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة فيقول الله عز وجل في كل مرة ذلك ثم يقول: اعمل ما شئت فقد غفرت لك) رواه البخاري، فقوله صلى الله عليه وسلم (مَا دَعَوتَنِي) (ما) شرطية، وفعل الشرط (دعا) في قوله (دَعَوتَنِي) وجواب الشرط (غَفَرْتُ) وإذا أردت أن تعرف (ما) الشرطية فاجعل بدلها (مهما) فلو قلت: مهما دعوتني ورجوتني غفرت لك صح، فقوله (مَا دَعَوتَنِيْ) مادمت تسألني مغفرة ذنوبك وتعبدني بالطاعات والدعوات ونحوها فإن الدعاء مخ العبادة وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه واستمداده منه المعونة في حقه

فقوله (مَا دَعَوتَنِيْ) الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، فدعاء المسألة أن تقول: يا رب اغفر لي. ودعاء العبادة أن تصلي لله، والدليل على أن العبادة تسمّى دعاءً قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) وتكون العبادة دعاء لأن المتعبد لله داعٍ بلسان الحال، فلو سألت المصلي لماذا صلى لقال لك: أرجو ثواب الله، فهو داع بلسان الحال، فقوله (مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِي) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فلابد أن تكون داعياً لله راجياً إجابته

فقوله (رَجَوتَنِيْ) خفت من عقوبتي ورجوت مغفرتي وطمعت في رحمتي وخشيت من عظمتي والرجاء تأميل الخير وقرب وقوعه

قوله (غَفَرْتُ لَكَ) المغفرة: هي ستر الذنب والتجاوز عنه

قوله (عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ) أي على ما كان منك من الذنوب والتقصير

قوله (وَلاَ أُبَالِي) أي لا أهتم بذلك إذ لا تعظم كثرتها علي فلا يبالي الله بذنوبك

قوله (يَا ابْنَ آدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ) أي أعلى السماء، والسماء على الأرض كالقبة

قوله (ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِيْ) أي طلبت مني المغفرة، سواء قلت: أستغفر الله، أو قلت: اللهم اغفر لي مع حضور القلب واستحضار الفقر إلى الله

قوله (غَفَرْتُ لَكَ) تجاوزت عنك بإزالة العقاب

قوله (يَا ابنَ آدَمَ إنِّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الأَرْضِ خطَايَا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً) قوله (لَوْ أَتَيْتَنِيْ) أي جئتني بعد الموت، (بِقِرَابِ الأَرْضِ) أي ما يقارب ملأها، قوله (خطَايَا) جمع خطيئة وهي الذنوب، (ثُمَّ لَقِيْتَنِيْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئَاً) قوله (شَيئَاً) نكرة في سياق النفي تفيد العموم أي لا شركاً أصغر ولا أكبر، قوله (لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً) يأتي الإنسان ربه بملء الأرض خطايا ثم يأتيه عزّ وجل بقرابها مغفرة، هذا لا شك من نعمة الله وفضله، يقول بالعدل ويعطي الفضل

ولا شك أن هذه المغفرة لمن شاء

فوائد الحديث

أولاً: شرف بني آدم حيث وجه الله إليه الخطاب بقوله (يَا ابْنَ آدَمَ) وبني آدم فضلوا على كثير ممن خلق الله وكرمهم، قال سبحانه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء: 70

ثانياً: أن كلمة (ابن) أو (بني) إذا أضيفت إلى القبيلة تشمل الذكور والإناث مثل هذا وقف على بني الظفير أو إلى الأمة تشمل الذكور والإناث كما في الحديث (يَا ابْنَ آدَمَ) أما إذا أضيفت إلى شيء محصور فهي للذكور فقط مثل هذه المزرعة وقف على بني ناصر وهو واحد

ثالثاً: أن من دعا الله ورجاه فإن الله تعالى يغفر له لقوله تعالى (إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ) فلا بد من الرجاء مع الدعاء لا أن يكون القلب غافل لاهي يذكر الدعاء على وجه العادة، أما الذكر والتسبيح والتهليل وما أشبه ذلك فهذا يعطى أجراً به أقل مما لو استحضر وذكر بقلبه ولسانه فلا بد من الافتقار إلى الله، إذ القلب اللاهي ليس حرياً بالإجابة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه

رابعاً: من أهم أسباب استجابة الدعاء أن يكون رزق الإنسان حلال عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! ) رواه مسلم، وقال (يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة) رواه الطبراني في الصغير

خامساً: ينبغي تحري أوقات الإجابة بعد عصر يوم الجمعة، وبين الأذان والإقامة، ووقت نزول المطر، وفي السفر، كما ينبغي الوضوء قبل الدعاء وصلاة ركعتين واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وافتتاحه بالحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما ينبغي أن يتحرى مواطن الإجابة وهي الثلث الأخير من الليل والدعاء في السجود، ويحسن الظن بالله ويرجو منه الإجابة مع الاعتراف بالذنب

سادساً: أفضل أنواع الاستغفار سيده، روى البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت

سابعاً: إثبات لقاء الله عزّ وجل، لقوله (ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِك بِي شَيْئَاً) فلا بد من ملاقاة الله عزّ وجل، والنصوص في هذا كثيرة، فيجب على الإنسان أن يستعد لملاقاة الله، وأن يعرف كيف يلاقي الله، هل يلاقيه على حال مرضية عند الله أو العكس ففتش نفسك واعرف ما أنت عليه

وبهذا نكون قد انتهينا من شرح الأربعين النووية.

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

10-12-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر