صلاة أهل الأعذار

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 11 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 1904 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله رب العالمين، سهل لعباده طريق العبادة ويسر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تؤمن من قالها وعمل بها من هول يوم الفزع الأكبر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى وتمسكوا بدينكم في سائر أحوالكم، فإنه نجاتكم ورأس مالكم، قال تعالى (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران: 102

ومن رحمة الله أن جعل هذا الدين سهلا سمحا لا آصار فيه ولا أغلال، يتمشى مع حالة الإنسان واستطاعته، فقد جاء باليسر والفرج والسماحة، ورفع الحرج، ومن ذلك تشريعه في الصلاة بالنسبة لمن عنده عذر من مرض، أو سفر، أو خوف

فمن حصل له عذر من تلك الأعذار، فإنه يصلي حسب استطاعته، ولا تسقط عنه الصلاة في حال من الأحوال، ما دام عقله باقيا، فالمريض يلزمه أن يؤدي الصلاة قائما، وإن احتاج إلى الاعتماد على عصا ونحوه، فلا بأس بذلك، فإن لم يستطع الصلاة قائما، بأن عجز عن القيام، أو شق عليه، أو خشي من قيامه زيادة مرضه، أو تأخر برئه، فإنه يصلي قاعدا، وتكون هيئة قعوده حسب الأسهل عليه، ويومئ برأسه في الركوع بأن يحني رأسه، ويقول: سبحان ربي العظيم، وأما السجود، فإن استطاع من صلى قاعدا أن يسجد على الأرض، وجب عليه ذلك، وإن لم يستطع، فإنه يومئ برأسه في السجود، ويجعله أخفض من الإيماء بالركوع، ويقول: سبحان ربي الأعلى، فإن لم يستطع الصلاة جالسا، فإنه يصلي على جنبه، والأفضل أن يكون على جنبه الأيمن، فإن لم يستطع التوجه إلى القبلة، أو لم يكن عنده من يوجهه إليها، وخشي خروج الوقت، فإنه يصلي حسب حاله إلى أي جهة تسهل عليه، ويومئ برأسه في الركوع ويقول: سبحان ربي العظيم، ثم يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يومئ برأسه في السجود، ويجعله أخفض من الركوع، ويقول: سبحان ربي الأعلى، ثم يرفع رأسه من السجود، ويقول: رب اغفر لي، ثم يومئ برأسه للسجدة الثانية مثل الأولى، فإن لم يستطع المريض الصلاة على جنبه، فإنه يصلي مستلقيا على ظهره، وتكون رجلاه إلى القبلة إن أمكن، ويومئ برأسه للركوع والسجود كما سبق

والدليل على صلاة المريض على هذه الكيفيات السابقة، ما أخرجه الإمام البخاري من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك) زاد النسائي (فإن لم تستطع فمستلقيا)

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) البقرة: 286

ومما سبق يتبين لنا أن الصلاة لا تسقط عن المريض مهما بلغ به المرض ما دام عقله باقيا، بل يصلي على حسب حاله، ولا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها، فالصلاة تؤدى حسب الاستطاعة، ومن عجز عن بعض شروطها أو أركانها أو واجباتها، فإنه يسقط عنه ما عجز عنه من ذلك؛ لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن: 16

فإن استطاع المريض الوضوء توضأ، وإن لم يستطع، فإنه يتيمم بالتراب، بأن يضرب بباطن يديه على تراب أو على شيء عليه غبار من فراش أو غيره، ثم يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه، وإذا جيء له بتراب يسير يجعله عند سريره في منديل أو إناء صغير يضرب عليه للتيمم فحسن، وإن لم يجد ماء ولا ترابا، وخشي خروج الوقت، فإنه يصلي بلا وضوء ولا تيمم، وصلاته صحيحة ومجزئه؛ لأنه فعل ما يستطيع، والله تعالى يقول (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن: 16

والثياب التي عليها نجاسة إن استطاع أن يغسل النجاسة عنها، ويصلي فيها فعل، أو استطاع أن يستبدلها بثياب طاهرة أو خلع مالا يحتاج إليه في الصلاة منها، فإنه يجب عليه ذلك، وإن لم يستطع غسلها ولا استبدالها ولا خلع شيء منها، وخشي خروج وقت الصلاة، فإنه يصلي فيها، وصلاته صحيحة

وإذا كان في أحد أعضاء الوضوء جرح، أو موضع عملية، وعليه ضماد، فإنه يمسح عند كل وضوء على ذلك الضماد الذي فوق الجرح، ويكفيه المسح على الضماد عن غسل ما تحته إلى أن يزال أو يبرأ ما تحته

ويجب علينا أن نعلم مرضانا أن الصلاة يجب أداؤها في مواقيتها حسب الإمكان، كما يجب على المسؤولين في المستشفى أن يعلموهم كيف يصلون، وذلك بواسطة توزيع نشرات أو تسجيلات تذاع في المستشفى عن أحكام الصلاة، وأحكام الطهارة، وغيرها من أحكام المريض، ويجوز للمريض إذا احتاج إلى الجمع بين الصلاتين أن يجمع بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما تقديما أو تأخيرا، وبين الظهر والعصر في وقت إحداهما تقديما أو تأخيرا، حسب الأرفق به، إذا كان يلحقه بترك الجمع مشقة

ومن أهل الأعذار: المسافر الذي يقصد مسافة تبلغ ثمانين كيلو مترا، فإنه يستحب له قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين رخصة من الله تعالى، وصدقة تصدق بها عليه للتخفيف عنه، قال تعالى (وإذا ضربتم في الأرض) يعني: سافرتم (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)النساء:101

يعني: الرباعية، فتصلوها ركعتين، وهي: الظهر، والعصر، والعشاء، دون المغرب، والفجر، فإنهما لا تقصران، لأن المغرب وتر النهار، والفجر شرعت ركعتين في الحضر والسفر

ولا يقصر المسافر إلا إذا خرج من بلده، وفارق عامر قريته، ويجوز القصر للمسافر، ولو تكرر سفره كصاحب البريد، وصاحب سيارة الأجرة

ويلزم المسافر إتمام الصلاة إذا صلى خلف مقيم، وإذا نوى في أثناء سفره إقامة تزيد على أربعة أيام، فإنه يتم الصلاة لانقطاع أحكام السفر في حقه، أما إن نوى إقامة لا تزيد على أربعة أيام، أو نوى إقامة غير محددة، فإنه يقصر الصلاة لعدم انقطاع أحكام السفر في حقه

وأما النوافل، فإن المسافر يحافظ منها على الوتر، وعلى قيام الليل، وعلى راتبة الفجر، وهما الركعتان اللتان قبلها، وأما بقية الرواتب التي مع الفرائض، فإنه لا يصليها؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة راتبة في السفر غير سنة الفجر والوتر

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم يصلي التهجد على راحلته، ويباح للمسافر في أثناء السير في الطريق أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما جمع تقديم أو تأخير، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تقديم أو تأخير حسب الأرفق به، فإذا دخل عليه وقت الأولى قبل ركوبه، فإنه يجمع جمع تقديم، ثم يركب، وإن دخل عليه وقت الأولى وهو يسير في الطريق فإنه يؤخرها ويصليها مع الثانية إذا نزل جمع تأخير، وإن كان في طائرة لا تنزل إلا بعد خروج وقت الثانية، فإنه يصلي في مؤخرة الطائرة أو مقدمتها على حسب ما يتيسر له، ولا يؤخر الصلاة إلى النزول، وإذا كان المسافر نازلا فإنه يصلي كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع وهذا هو الأفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في منى، ويجوز له الجمع لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك وعرفة ومزدلفة؛ ويباح الجمع في الحضر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في حال المطر والمرض والسفر

ومن أهل الأعذار: الخائفون الذين يمنعهم الخوف من أداء الصلاة كاملة على الوجه الذي يؤديها به الآمن، فإن هؤلاء يصلون على حسب حالهم

وللخائف حالتان

الحالة الأولى: حالة الخوف الشديد، كالهارب من عدو، أو سيل، أو سبُع، ومن في حالة التحام القتال مع العدو، فإن هؤلاء في هذه الحالة يصلون رجالا أو ركبانا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها؛ لقوله تعالى (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) البقرة: 239

قال الإمام البغوي رحمه الله معناه: إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف، فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركبانا على ظهور دوابكم، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة، يصلي حيث كان وجهه راجلا أو راكبا مستقبل القبلة، وغير مستقبلها، ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع

وكذلك إذا قصده سبُع أو غشيه سيل يخاف منه على نفسه، فعدا أمامه، وصلى بالإيماء، فإنه يجوز

والحالة الثانية: إذا كان الخوف غير شديد، وكان العدو مقابلا لهم قريبا منهم يخشون أن يهجم عليهم في الصلاة، ففي هذه الحالة يقسم الإمام الجند إلى طائفتين طائفة تصلي معه، وطائفة تحرس وتراقب تحركات العدو، فإذا صلى بالذين معه ركعة ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم وسلموا، ثم ذهبوا إلى مكان الحراسة، وجاءت الطائفة التي كانت تحرس في الركعة الأولى، وصلوا مع الإمام الركعة الثانية، ثم أتموا لأنفسهم وانتظرهم جالسا، ثم سلم بهم

ولصلاة الخوف صور أخرى جاءت بها الأحاديث بحسب الأحوال، قال الإمام أحمد رحمه الله: صحت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أو ستة أوجه، كلها جائزة، ومن ذهب إليها كلها فحسن

فالحمد لله على التيسير، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على دينه، ويرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله

قال تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة: 238

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، على نعمه الظاهرة والباطنة (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) النحل: 18

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه القويم، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، لا في السفر، ولا في المرض، ولا في الخوف، ولم يجز تأخيرها عن وقتها في تلك الأحوال الشديدة، فما بال أقوام يتخلفون الآن عن صلاة الجماعة، وهي تقام بجوار بيوتهم، وعلى مسمع ومرأى منهم، وهم آمنون أصحاء

وما بال أقوام يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ولا يصلونها إلا بعد قيامهم من النوم أو فراغهم من الشغل؛ وهم يقرؤون قول الله تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) النساء: 103

أي: فرضا فرضه الله في أوقات محددة

أليسوا مؤمنين؟ ألم يعلموا أن من أخر الصلاة عن وقتها فقد أضاعها وسها عنها؟

وقد قال الله تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) مريم: 59

وقال تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) الماعون: 4-5

أما آن لهؤلاء أن يتقوا الله في أنفسهم وفي أهليهم، فينقذوا أنفسهم وأهليهم من نار (وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم: 6

هل يريدون أن يستقيم لهم دين بدون صلاة، هل يريدون أن تصح لهم صلاة بدون التزام بشروطها وأحكامها

فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، وخذوا على أيدي من ألزمكم الله الأخذ على أيديهم، فإنقاذكم لهم من المعاصي أشد من انقاذكم لهم من الغرق والحريق، فإن العذاب إذا نزل لا يقتصر على المذنب، بل يعم معه من لم ينكر عليه (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) الأنفال: 25

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبينا محمد فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب: 56

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين

اللهم أيد بالحق إمامنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعل به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين يا رب العالمين

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لشعوبهم المؤمنة، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون

فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.العنكبوت:45.

11-02-1439 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي